الأنشطة

بيل هوكس: النسوية للجميع: سياسة شغوفة. تقديم: هاجر بن ادريس

النسوية التقاطعية

 

أقدم في هذه الورقة كتابا أعتبره من أهم ما صدر من كتب حول الفكر النسوي في مطلع هذا القرن. صاحبة الكتاب هي بيل هوكس (1952) وهو الاسم المستعار لجلوريا جينز واتكينز(اسم استعارته من جدتها واستعملته كاعتراف منها للإرث الأمومي وتصر على أن يكتب اسمها بحروف صغيرة كي تجلب الاهتمام إلى الرسالة التي يمررها اسمها لا إلى شخصها)، كاتبة نسوية أمريكية اعتنت بقضايا النساء السوداوات وعالجت في العديد من الكتب والمقالات مسألة الهوية النسوية. يعتبر كتابها  النسوية للجميع: سياسة شغوفة (Feminism For Everybody: A Passionate Politics (2000( من أبرز المؤلفات التي تمهّد للفكر النسوي. وهو كتيّب في 68 صفحة يصحّ وصفه بالسهل الممتنع حيث استعملت هوكس لغة مبسّطة وأسلوبا سلسا مبتعدة في ذلك عن اللغة الأكاديمية المُعتَّمة والمصطلحات التي يصعب فهمها على غير ذوي الاختصاص. أما ما يجعله ممتنعا فهو دراية الكاتبة وتمكنها من القضايا النسوية. وبالتالي فإن سهولة قراءة الكتاب تتأتى بالأساس من خبرة هوكس ودربتها في الكتابة عن أسئلة حارقة لا تزال تصطدم بعدم معرفة جمهور واسع من الناس بالحركة النسوية.  الكتاب متجذر في منطق سليم وحكمة اكتسبتها مؤلفته من تجربة نضال طويلة مزجت فيها السياسة بالشغف. تقول هوكس: “أنا شغوفة بكل الأشياء في حياتي -أولا وقبل كل شيء شغوفة بالأفكار. ومثل هذا الشغف يجعل من صاحبه خطيرا في هذا المجتمع، ليس فقط لأنني امرأة، ولكن لأنه بالأساس مجتمع يعادي الفكر والتفكير النقدي.” “سياسة شغوفة” هو الجزء الثاني من عنوان الكتاب، اقتبسته من كتاب شارلوت بانش (Charlotte Bunch)، النسوية الأمريكية المناضلة من أجل حقوق النساء وحقوق الإنسان، الذي يحمل عنوان Passionate Politics: Feminist Theory in Action (1987) (سياسة شغوفة: النظرية النسوية كفعل). ولا يختلف استعمال هوكس لتعبير “سياسة شغوفة” عن مقصد صديقتها بانش فهما تتفقان في التفكير حول سبل الربط بين الشغف بموضوع ما والشغف بالتغيير والعمل على ذلك برؤية سياسية. فالشغف عند هوكس هو فعل يجمع العناية والاهتمام والتصميم على الانجاز.

أمضت هوكس عشرين سنة تتطلع لتأليف مثل هذا الكتاب. كتاب يخاطب الجميع: الخاصة والعامة، النساء والرجال على حد السواء، ويتوجه بالأساس لأولئك المشككين الساخرين من النسوية والنسويات، فتقول : ” كنت أود لو كان في حوزتي كُتيّب كي أستطيع أن أقول: ‘اقرؤوا هذا الكتاب، سيخبركم عن كنه النسوية وعما تنطوي عليه هذه الحركة’. أود أن أمسك بكتاب وجيز سهل القراءة والفهم وليس كتابا ضخما مثقلا بمصطلحات ولغة أكاديمية يعسر استيعابها. كتاب بسيط سلس، مُبسّط وبعيد عن السذاجة. رغبت في كتاب كهذا منذ أن غيرت النسوية، فكرا وسياسة وممارسة، حياتي. وددت لو أقدمه إلى الأشخاص الذين أحبهم كي يتمكنوا من فهم أفضل لهذه القضية، ولهذه السياسة النسوية التي تحولت إلى إيمان راسخ وأصبحت عماد حياتي السياسية.” بنفس الشغف، تطلعت لمدة عشرين سنة أن أترجم الكتاب. لم أتحصل إلا على حقوق ترجمة المقدمة والفصل الأول منه ونشرت ترجمتي مجلة نظر في عددها الصادر يوم 15 ديسمبر 2019. الذي جعلني أصر على ترجمة هذا الكتاب هو نفس السبب الذي دفع هوكس إلى كتابته، لم تتغير الأشياء منذ عشرين سنة: نفس النفور من النسوية الناتج عن الجهل بهذا الفكر. ارتبطت كلمة “النسوية” le féminisme  في جميع الثقافات تقريبا بفكر مضطرب لمجموعة من النساء ذوات نزعة هستيرية تكره الرجال وتحاول إعادة تنظيم العالم وفرض سيطرة المرأة عليه. وللأسف نجد هذا الفهم الخاطئ للنسوية في أوساط النخبة. وأعرف العديد من النساء الأكاديميات والمثقفات من الروائيات والشاعرات التونسيات ممن يعتبرن النسوية تهمة يتنصلن منها في المنابر: “مانيش فمينيست”، “لا أعتبر نفسي نسوية وأرفض أن أُصَنّف في هذا الفريق.” تحاورت مع بعض الكاتبات التونسيات حول هذا النفي، خاصة أن المشاغل التي يطرحنها هي مشاغل نسوية بالأساس، فلم تكن الإجابة شافية. كل ما فهمته من إحداهن هو أنها ترفض أن تقسم المشهد الأدبي إلى أدب رجالي وأدب نسائي. وفي الأمر خلط واضح وخوف من هذا المُسمى الذي يمكن أن ينفّر القارئ. أما الأكاديميات فهن يلجأن إلى تبرير رفضهن للنسوية بالتركيز على اللاحقة suffix)) “ism” التي يرين فيها دليلا على مأسسة الفكر. فالنسوية التي حققت انتشارها في المؤسسات الأكاديمية تعتبر فكرا وقع تدجينه وفقد قدرته على الفعل والتأثير في حين أصبح المنتمون إلى هذا التيار دغمائيين ومحافظين. وقد يكون في الرأي الأخير شيئا من الصواب الأمر الذي جعل هوكس تتحدث عن النظرية النسوية كفعل وممارسة يومية. أما جوابها للنساء اللاتي يعتبرن النسوية مرضا معديا أو تهمة فهو كالآتي: “لا أريد من أي كان أن يصرح/تصرح “أنا نسوية /نسوي” لأن مثل هذا التصريح يجعل من هذه الحركة القوية تبدو وكأنها مجرد اختيار لنمط عيش. أريدنا جميعا، نساء ورجالا، أن نركز على السياسة. أريد أن نقول جميعا: ‘أنا أناصر السياسة النسوية’.” وترى هوكس أن مصدر هذا النفور أو الخوف من النسوية هو عدم معرفة هذه الحركة والأفكار التي تناضل من أجلها فتقول: “عندما أسأل هؤلاء الناس عن الكتب والمجلات النسوية التي قرأوها وعن المحاضرات النسوية التي استمعوا إليها وعمّن يعرفون من الناشطات النسويات ، يخبرونني بأن كل ما يعرفونه عن النسوية لم يصلهم من المصدر الأم وأنهم لم يقتربوا فعلا من الحركة النسوية بالقدر الكافي الذي يجعلهم يتعرفون فعلا على كنهها وعلى ما يحدث داخلها. إذ  يعتقد أغلبهم أن النسوية هي مجموعة من نساء غاضبات يرغبن أن يتحولن إلى رجال. ولم يدر بخلدهم أن النسوية تتعلق بالحقوق – حق النساء في المساواة.” لذلك اختارت هوكس جملة “اقتربوا من النسوية” عنوانا للمقدمة التي تختمها قائلة: “تخيلوا العيش في عالم لا توجد فيه هيمنة، عالم لا نتحدث فيه عن تشابه الإناث والذكور أو حتى المساواة الدائمة بينهم، بل عن رؤية تشاركية تشكل أخلاقيات التفاعل بيننا. هيا اقتربوا. انظروا كيف تستطيع النسوية أن تمس وتغير حياتكم وحياتنا جميعا. هيا اقتربوا وتعرفوا من المصدر الأول عن كنه الحركة النسوية. هيا اقتربوا وسترون أن النسوية للجميع.”

تعتقد هوكس أن السياسة النسوية بصدد فقدان زخمها لأن الحركة النسوية فقدت تعريفا واضحا لها وترفض فكرة أن للنسوية أوجها مختلفة بعدد النساء واختلافهن فتقترح تعريفا يتجاوز الخطوط الفاصلة بين الطبقة والجنس وهو تعريف اقترحته في مقدمة الكتاب ثم كررته مرارا في الكتاب حتى يرسخ في ذهن القراء.  “هذا تعريفنا المبسّط للنسوية”، تقول هوكس، “هي حركة من أجل إنهاء التمييز والاستغلال والاضطهاد على أساس الجنس.”

(Feminism is a movement to end sexism, sexist exploitation and oppression)

 ترجمت كلمة “sexism” بعبارة “التمييزعلى أساس الجنس”  وفضلت عدم استعمال الترجمة المقترحة في “مشروع المصطلحات الخاصة بالمنظمة العربية للترجمة” وهي “جنسوية” لأنه خلافا للإنجليزية لا تحيل كلمة “جنسوية” إلى المعنى المقصود في ذهن القارئ غير المختص في دراسات الجندر.

والتعريف الذي اقترحته هوكس هو نفسه الذي كانت قد اقترحته في كتابها الموسوم النظرية النسوية: من الهامش إلى المركز. ويعود شغفها بهذا التعريف إلى أنه لا ينطوي على معاداة للرجال إذ أن إشارته إلى التمييز على أساس الجنس يسمي الأشياء بمسمياتها ويأخذنا صوبا إلى صلب الموضوع. ومن الجهة العملية، فهو تعريف يفيد بأن التفكير والفعل  القائمين على هذا التمييز هما أساس المشكل سواء كرّسه الذكور أو الإناث، الأطفال أو الكهول. كما أن بإمكانه أن يشمل فهما للمأسسة النظامية للتمييز على أساس الجنس وبالتالي فهو تعريف مفتوح قوامه أن فهمنا للنسوية يعتمد أساسا على استيعابنا للتمييز على أساس الجنس.

ينبني كتاب هوكس على النسوية التقاطعية (le féminisme intersectionnel) وهو مصطلح صاغته كيمبرلي ويليامز كرينشو سنة 1989 لتحليل تجارب الاضطهاد والتمييز التي تتعرض إليها النساء السوداوات في أمريكا. ويشير المصطلح إلى تقاطع عوامل مختلفة في عملية الاضطهاد والتمييز مثل الجندر والعرق والطبقة الاجتماعية والدين والإعاقة والمستوى التعليمي والتوجه الجنسي. ورغم أن هوكس لم تأت بهذا المصطلح إلا أنها كانت سباقة إلى استعمال مقاصده لرسم خطوط التواصل والتقاطع بين العرق والجندر والطبقات الاجتماعية. وهو ما نجده في كتاب نشرته سنة 1981 تحت عنوان ألست امرأة؟ (Ain’t I a Woman?) ، سؤال استعارته من أول امرأة سوداء أدلت بشهادتها في مؤتمر حقوق النساء الذي انعقد في أوهايو سنة 1851. وفي كتابها النسوية للجميع تستعمل هوكس نفس المقاربة التقاطعية التي انتهجتها في أعمالها السابقة. في حديثها عن معاداة الذكور، مثلا، تقول هوكس “أن هذا العداء كان طاغيا على خطاب الناشطات النسويات في مرحلة أولى وكان ذلك ردا غاضبا على الهيمنة الذكورية. وقد كان هذا الغضب إزاء الظلم دافعا لبعث حركة تحرير المرأة. وبتطور النسوية المعاصرة وإدراك النساء أن الذكور لا يمثلون الفئة الوحيدة في المجتمع التي تدعم التمييز على أساس الجنس وما ينجر عنه من سلوك -فالإناث أيضا بإمكانهن أن ينخرطن في هذا التمييز- فإن الشعور بمعاداة الرجال لم يعد شاحذا لوعي الحركة. وتوجه التركيز نحو تكثيف الجهود لإرساء العدل على أساس الجندر. ولكنه من غير الممكن أن تتكتل النساء من أجل تعزيز النسوية دون أن تواجه الفكر المتجذّر في التمييز على أساس الجنس. ولا تستطيع الرابطة الأختيّة أن تكون قوية ما دامت النساء يعشن حربا تنافسية فيما بينهن. فالرؤية الطوباوية للأختيّة المبنية فقط على الوعي بأن كل النساء هن بشكل ما ضحايا هيمنة الذكور تصدعت أمام النقاش القائم حول الطبقية والعرق.” وتأكد هوكس أنه “بإمكاننا أن نصبح أخوات في النضال عندما نواجه الأساليب، من جنس وطبقة وعرق، التي استغلت وهيمنت بواسطتها نساء على نساء أخريات وخلقت منصة سياسية لمعالجة هذه الفوارق.”

تدعو هوكس إلى نسوية خالية من الانقسامات، تتخطى الحواجز و ترتكز على نقاش جاد. كما تؤسس لرؤية تقوم على الحب وهي صاحبة ثلاث كتب استعملت في عناوينها كلمة الحب وتحدثت فيها عن الحب، من أشهرها كل شيء عن الحب (All About Love)  أقتبس منه مقولتها الشهيرة “لا يوجد حب دون عدالة.”” الحب فعل وليس مجرد شعور.”

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى