
اتكأت الشمس على الشفق نازفة، رُصّفت صناديق الخضر في شاحنة، واكتظّت الأخرى بنا قبل أن تشّق وعر الطريق، تشبثتُّ بالحاجز الحديدّي، أرتّب في رأسي شؤون كثيرة، قبل أن تتناثر أجسادنا هنا وهناك، اِرتطمتُ بوجه الأرض فجأة، رفعت ناظري إلى السماء، قلّبتُ فيها عينيّ المنقوعتين في الخوف،
أخبرتني زرقتها أنني ما زلت على قيد الحياة، فأرخيت جسدي الصغير الذي أنهكه الإنحناء المستمّر وأعيته مصافحة التربة و مزروعاتها، وضعتُ رأسي الثقيل أرضا، انسدل جانبي شعري الحريريّ بعد أن ألقى وشاحه الورديّ، شعرت أنّني في قعر هذه الأرض، ضجيج وأصوات كثيرة تداخلت في رأسي بين “آهٍ”و “يا اللهُ” ، أظنّ أنني وقعت فوق أحد المخلوقات و رفسته، أشعر أن شيئا يحدّق بي، قد يطلّ الآن أحد الشياطين برأسه القبيح ويمدُّ يده ليسحبني عنده. أو أن الحشرات التي أتيتُ على الكثير منها بفأسي وأنا أقتلع الأعشاب الطفيليّة ستقرض جسدي، على بعد كيلومترات مني مسرح الواقعة، لقد نُقلَ جسدي بحذر شديد يُحيي أملي في النجاة، ثم وضعتُ أرضا أخرى، طقطقة الأحذية المسرعة في الإبتعاد عني، أنذرتني بالخوف، اضحى المكان هادئا للغاية ،وجهي والسماء يتبادلان النظر، حتى هوى فوقي شابّ يتحسّس عنقي بإصبعيه، رغم ضبابيّة صورته، عرفت أنّه صديقي الذي يشاركني المرح ، انعكستُ على عدستيه فرأيتني تلك الطفلة التي إعتادت اللعب هنا، والتي حذرَتَّها جدّتها من الهوّة، كانت تقول لي أن الشيطان يقطن تحت الأرض وهو مولع بجذب من يطلّ على الحفر العميقة. وأنا شغوفة بالظلّ، أحب الظلال فأسعى إلى تحريك مصدرها وما سكن منها، كنت مرحة أحبّ الحياة، مرحت مع ظلّي كثيرا، كنت أراقصه وأحاول مسكه فأقفز فوقه بغتة، رأيت خطواتي السريعة و الثقيلة تصاحبني في الطرق، وفي المرة الوحيدة التي تخلّى فيها الظلّ عني اكتشفت انعكاسي بشكل أوضح في مرآة مائيّة، كنت أحاول أن أطلّ بجسد كامل، أحرّك رأسي، أراقص ظفار شعري، أحرّك يدي و ألويها كراقصة باليه و أستمتع برؤيتي على وجه الماء، الخوف الذي نما داخلي من الهوّة، أطفأتُ وميضه بجمع الحصى و رميها. هذه المرّة انزلق حجر من حافة البئر فهوى إلى قاعه، لم أرَ سوى حلقات دائرية مختلفة الأحجام متواترة ودوّامة صغيرة تتمركزها، جرحَ الحجر الماء و ترك على وجهه ندبة اختفت تدريجيا كما يختفي الصدى المتردّد كلّما أصدرتُ صوتا أو دندنت أغنية، كان تردّد الصوت يمتدّ حسب قوّته، فكرّت عند وقوع الحجر أنّ شيطان جذبه من يدي، فرجمته بحجر كان ترددّه أكبر، شعرت بالخوف لوهلة، أذكر أنّني ارتميت على اليابسة واتخذت نفس وضعيتي الآن، الأرض التي أحبّها، كدمت ركبتي و نزعت الجلد عن كفّ يدي الصغيرة، جرحتني و جرحتُها كثيرا بمعولي وغرستُ في جروحها فلفلا، نزعتُ عنها قشرتها، قرعتُ رأسها بفأسي، تعلّمت رغم الصغر، قص شعرها الأخضر و جدائلها الذهبية،أنكبّ عليها من الصباح إلى المساء، أسمع أنينها، تسمع تعبي و تنعى طفولتي .
حاول الشاب إسعافي، سند ظهري على الحائط، شعرتُ الخوف يسري تحت جلدي، رغم أنني لم أشعر به عندما رمتني سيارة نقل البضائع من مجرورتها، كنت أحسب أنّ حياتي قيّمة ثم أدركتُ أنني قضيّة ستربك صاحب الأرض إذا سُجِل اسمي في قائمة الضحايا لا أكثر، لم يخافوا موتي بل خافوا جزاء جريمة تشغيل قاصر، ليخفوا جسدي الهالك وراء البئر قبل قدوم رجال الشرطة. صاحب الأرض لا يعرف أنّ البئر تعرفني.