ندوات

التعددية الكونية، أهي باراديغم جديد؟ ساري حنفي، ترجمة منير السعيداني.

التعددية الكونية، أهي باراديغم جديد؟

ساري حنفي، جامعة بيروت الأمريكية، صدر على صفحات حوار كوني، مجلة الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، 2010، ترجمة منير السعيداني.

 

في رحاب الكلية الأمريكية اللاتينية للعلوم الاجتماعية ببيونس آيرس، ومن 18 إلى 20 أكتوبر 2010، نظّمت الشبكة العالمية للعلوم الإنسانية والاجتماعية بالتعاون مع المعهد الدّولي للتعليم العالي في أمريكا اللاتينية والكراييبي/اليونسكو، والمجلس الوطني للبحوث العلمية والتقنية بالأرجنتين منتدى حول “المعطيات الثقافية في العلوم الاجتماعية والأنشطة الجامعية: التحديات الإبستيمولوجية والتعليمية الماثلة أمام بناء تعددية علمية كونية”. وقد جمع المنتدى علماء اجتماع وإناسيين ومؤرخين وعلماء حياة من كل أرجاء العالم حتى يتطارحوا التحدّي الذي تمثّله “الحاجة متزايدة الإلحاح للتشارك في المعارف على المستوى العالمي” خارج سياق البنى المنغلقة التي تجعل من الكثير من أشكال إنتاج المعرفة أشكالا غير مرئية.

تتعارض التعددية الكونية مع الآحادية الكونية التي تجبر مثقفي الجَنُوب الكَوْنيّ على الصمت وبذلك فإنها تفكير في ما تنحصر فيه الكونية (الآحادية) داخل سياج حدودها. لا يتعلق الأمر بالتناقض بين الاستغراب والاستشراق بل بالطريقة التي يُتَصوّر بها الحوار والترجمة ما بين الثقافية بين باحثي الشمال وباحثي الجنوب. تعترف التعددية الكونية بالتبعية البنيوية ولكنّها تطوّر في الآن ذاته استراتيجيات مكافحتها. وعلى أساس وعي المنتدين باندفاع العلوم الاجتماعية إلى أبعاد عالمية اهتموا بالطريقة التي بها يمكن لهذه الظاهرة أن تأخذ في الاعتبار الخصوصيات الثقافية وذلك من خلال الاعتراف بالمصادر المتعددة للمعرفة بما في ذلك الأهلية منها.

وقد أكد مايكل كوهن، رئيس الشبكة العالمية للعلوم الإنسانية والاجتماعية، في خطابه الافتتاحي على ضرورة استبدال الآحادية الكونية التي تتأسس عليها تأويلات العالم الأوروبية بتنوع تأويلات العالم الكوني محللا طبيعة آليات هيمنة الفكر الغربي واقترح أن تستهدف أعمال الشبكة:

  • عرض الفرضيات الإبستيمولوجية التي تقوم عليها المعرفة في العلوم الاجتماعية
  • تحديد نماذج المجتمعات التي تغطيها هذه المقولات النظريات المُسَيَّسَة،
  • تطوير مقاربة عالمية للتفكير في العلوم الاجتماعية تمكّن من تحرير هذه العلوم من خُصُوصيّة المعرفة المُسيّسة.

وقد فضل المنتدى مباشرةَ دراسة حالات ملموسة على الإغراق في المحاورات النظرية الكبرى وعليه فقد حثت هيب فيسوري (المعهد الفينيزويلي للبحث العلمي) المشاركين على إكساب المحاورة صبغة الانتقال من ثقافة “العلم” إلى ثقافة “البحث”، مُستعيدة ما قاله برونو لاتور من أن العلم بارد ومباشر ومنقطع في حين يكون البحث دافئا وملتزما ومحفوفا بالمخاطر. ففي حين يضع العلم حدّا لتقلبات النزاعات البشرية يخلق البحث خصومات، وهو بسعيه إلى الإفلات من قمقم الإيديولوجيا والعاطفة والمشاعر ينتج الموضوعية. وعلى حدّ اعتبار فيسوري فإن البحث العلمي والمجتمع تداخلا اليوم إلى الحدّ الذي لم يعد بإمكانهما الافتراق وعليه فهي ترى أن البحث في العلوم الاجتماعية آخذ هو أيضا بعدد من التحوّلات المهمة التي يمكن أن تنبئ عنها عناوين توجيهية من قبيل الحوار والمقارنة والترجمة.

وأكد المشاركون على أهمية الاعتراف بتنوع التجارب البشرية فصاغ كريس كازويل (جامعة أوكسفورد) ما أسماه “ممارسة العلوم الاجتماعية والمعرفة اليومية” صياغة نظرية بدراسته ثلاثة أصوات وافدة من قارات ثلاثة: شارل لينبلوم من الولايات المتحدة وبنت فلايبيرغ من الدانمارك وكاثرين أودورا هوبرز من جنوب إفريقيا إذ اهتم كل واحد من الثلاثة بالعلاقات المتبادلة بين ممارسة البحث في العلوم الاجتماعية وبالمعارف التي يولدها هذا البحث وكذا باستخداماتها.

وعرض مشاركون آخرون دراساتِ حالاتٍ اعتمدت على أعمال ميدانية. فقد ضرب هان سانغ جين (جامعة سيول الوطنية) مثالا ممتازا عن كيفية إثمار نظرية أولريخ بك عن “مجتمع المخاطرة” تأويلا للتقاليد الثقافية ينطلق من الأسفل، ذلك أن المخاطر التي يواجهها الكوريون الجنوبيون مثلا ترتبط بانهيار بنية أخلاقية كانت تلف مجتمعا يتحدّث بسرعة وهو ما يفرض على الباحثين أن ينتبهوا إلى التراتبية المعيارية التي تبنيها الكنفوشيوسية.

وقد حاجج نستور ت. كاسترو (جامعة الفيليبين) بأن النظام التربوي الفيليبيني يبجّل المفاهيم الغربية التي لا تناسب بالضرورة الحقائق الفيليبينية إذ يتعرّف طلبة علم النفس الاجتماعي مثلا على مفهوم “الأنا” في تعارضه مع “الآخر” فكيف والحال هذه يمكن تفسير لهم لفظة “كابوا” المستخدمة في لسان التاغالوغ والتي تعني تقريبا “الأنا في الآخر” فتحيل على أزواج متكاملة أي على قيمة التضامن مع الآخرين؟ وعليه فقد دافع كاسترو عن مقاربة كونية متعددة في تعليم العلوم الاجتماعية تتأتى ضمنها المفاهيم من مصادر متنوعة غربية وشرقية. وقد كانت هيمنة العلم الغربي محل مناقشة من قبل كازومي أوكاموتو (مؤسسة نوواي للبحث) أيضا حيث حلّل المصاعب التي يلاقيها الباحثون اليابانيون في التواصل مع زملائهم الأجانب وخاصة لدى نشوب اختلاف بينهم خلال المحاورات النظرية، وأكدت تانيا بيريز بوستوس (المعهد الوطني للأبحاث المتقدمة، كولمبيا) على ذات الهيمنة المثيرة للإشكال في ما يهمّ الفرضيات رجولية التمركز السارية في التعليم العلمي والتكنولوجي، وتناولت نيزي كاراهاسان (جامعة أنقرة) أثر المعطيات الثقافية في البحث العلمي الاجتماعي الجامعي التي شهدتها العشرون سنة الأخيرة. وقدم إ. كيتوت أرضانا (جامعة أودايانا، بالي) عرضا حول الدراسات الثقافية الأندونيسية فيما تناولت كارمن بووينو كاستيلانوس (الجامعة الأمريكية اللاتينية، المكسيك) مجال الإناسة الاجتماعية في المكسيك ونصحت بتعاون أكثر عدالة بين الشمال والجنوب كما بيْن الباحثين من جهة والمنظمات غير الحكومية والمنظمات التجارية والدّولية من جهة أخرى.

كما تناول المشاركون كذلك كيفية استدماج المعرفة العلمية للمعرفة الأهلية فعرض مايكل كريستي (جامعة شارلز داروين، أستراليا) تقريرا عن تعاون تمّ بين جامعته والمجتمع الآبوريجاني الأسترالي حيث اشتغل باحثون (بمن في ذلك من تمّ إشراكهم من الباحثين الآبوريجانيين) على الصلة التي يتوجب إقامتها بين تطور التكنولوجيا الرّقمية وديمومة الجماعة وعلى التناقل ما بين الجيلي للمعرفة التقليدية في التعليم الجامعي وفي البحث. وفي نفس السياق قدم سيزار كاريو ترويبا (الجامعة الوطنية المستقلة لمدينة مكسيكو) مثالا متميزا بيّن عبره أهمية الفلاحة والطبّ الأهليّينْ في المكسيك.

وأعاد المشاركون تناول الصّلة التي عقدها ميشال فوكو بين السلطة والمعرفة حيث بينتُ كيفية تأثير نظام جامعي وما يتضمنه من نسقٍ لإنتاج المعرفة العلمية الاجتماعية تأثيرا بالغا في تكوين النّخب في الشرق العربي حيث تفصل الجامعات ذات النخب المتعازلة على الأغلب بين من يتولّون النّشر على المستوى المحلّي وأولئك الذين يفعلون ذلك على المستوى الدّولي. ودافعتُ عن الحوار والترجمة ما بين الثقافية حتى نتمكن من بناء جسرٍ بين الكَوْنيّ والمحلّيّ إذ بالحوار مع زملاء لنا من كل أرجاء العالم تكون كونية إنتاج المعرفة وبالتحادث مع الجماعات المحلية تكون تلك المعرفة مُناسبة. وبلور بابلو كريمر (جامعة كويلمس الوطنية، الأرجنتين) نفس الافتراق بين الكوني والمحلي معتمدا دراسته العلم والتكنولوجيا والمجتمع في أمريكا اللاتينية مبيّنا أن مجتمعات طَرَفية ولكنها معولمة مثلا تشهد اعتمال توتّرات بين المعارف العلمية المندرجة في مجالات عابرة للأوطان من جهة والمعرفة المحلية من جهة أخرى أو بين الممارسة المخبرية المفترض استقلالها عن أثر أي سياق وفاعلي المجتمع المدني الذين لا يبقى لهم من خيار إلا التشكيك في آثار العلم من دون القدرة على المس بأساسه الإبستيمولوجي.

وعرض كلاديو كوستا بينهييرو (معهد العلوم الاجتماعية والتاريخ، ريو دوجانيرو) مثالين دالين دلالة بالغة عن الصّلة بين السّلطة والمعرفة. فقد كانت فكرة عالم السكّان الفرنسي ألفراد سوفي حول “العالم الثالث” قد طُوِّرت في مرحلة أولى في البرازيل ونُشرت أوّل مرّة سنة 1951 على صفحات مجلّة برازيلية مُختصة مرموقة ولكنها لم تكتسب صبغتها المفهومية “الكونية” إلا خلال السنة الموالية على أثر نشرها على صفحات المجلة الفرنسية لونوفال أوبسرفاتو. وبذلك امّحت أصول نظرية العالم الثالث البرازيلية بما عكس خط الافتراق بين الشمال (مُطوِّر النّظريات) والجنوب (مُستهلِك النظريات)، ولكن، وعلى خلاف ما حدث لنظرية العالم الثالث، ضرب بينهيرو مثال نظريّة التّبعية التي تمكّنت من الجَوَلاَن من البرازيل في اتجاه الجنوب والشّمال الكَوْنِيّينْ على أنّها ظلّت بالنّسبة إلى الشمال مقرونة إلى “إيديولوجيا” في حين كان الأمر يتعلق في الحقيقة بَحَرَكَة ثقافية من القوّة بمكان.

لقد كان المنتدى، في المحصلة النهائية، مثيرا للاهتمام ومكّن من معالجة ملموسة لمسائل كانت في قلب المحاورات التي جرت في الجمعية الدولية لعلم الاجتماع حول معنى “علم الاجتماع الكوني” ويَحْسُن بنا أن نشتغل سويًّا وأن نتابع المحاورات التي احتضنتها الاختصاصات المتجاورة حول المسألة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى