مقالات

لأن الأموات لاينبغي أن يحكموا الأحياء

مسيرة التحرر الطويلة للسود الأمريكان!
——————————————”حسني عبد الرحيم”
يبدأ الدستور الأمريكي والذي تم صياغته عبر مناقشة طويلة عل صفحات الجرائد بجملة «نحن الشعب. من أجل اتحاد أكثر إكمالا”. كانت الثورة الأمريكية ضد سيطرة التاج البريطاني قد بدأت وانتهت بإعلان الاستقلال (1776 ) وكانت إحدا عشر ولاية قد قررت تكوين اتحاد طوعي بينها. في الاثناء تطورت ولايات الشمال صناعيا وبَقى الجنوب زراعيا يعتمد على العبيد والى حدود الحرب الأهلية كان هناك أربعة ملايين سود يرزحون تحت نير العبودية وهم الذين تم استجلابهم من أفريقيا ليقوموا بالأعمال الزراعية والخدمة المنزلية الشاقة! وكانوا ممنوعين من حق التصويت وحقوق المواطنة !وبقيت مسألة العبودية لم تحل حتى سنوات 1865 عندما أنتخب “إبراهام لينكولن” الجمهوري رئيسا وبقيت ولايات الجنوب تحت سيطرة “الحزب الديموقراطي” الذي كان يؤيد استمرار العبودية . عندئذ قررت ولايات الجنوب الانفصال وتكوين “كونفدرالية” ولكن “إبراهام لنكولن” أعلن الحرب باسم الاتحاد على الإنفصاليين وانتهت باستسلامهم وموت 700,000 مقاتل فيها وإلغاء العبودية في كل الولايات المتحدة الأمريكية بعد أكثر قرن على إصدار الوثيقة الدستورية التي تضمنت مبادئ المساواة أمام القانون ولكن تحقيق ذلك استدعى حربا يسميها التاريخ الامريكي بمختلف مدارسه “الحرب الأهلية”!
لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة فقد استمرت سياسة العزل العنصري في الجنوب بصفة قانونية تحت ما يسمى بقوانين ” نظام جيم كراو “وتحت نظام “منفصلين ومتساويين “حيث كان للسود مدارسهم الخاصة وكنائسهم ومطاعهم وأماكن خاصة بهم في الحافلات العمومية والقطارات ! وحتى في الحركة العمالية رفض مجلس العمال الأمريكي(A.F.L) انضمام العمال ألسود فتأسس” مجلس العمال ألسود” (A.N.L.C)!
بدءا من الحرب العالمية الأولى غادر ملايين “الأفرو- أمريكيين” ولايات الجنوب لكي يعيشوا في “نيويورك”و”إلينوي” و”كاليفورنيا” بعيدا عن عمليات الشنق العنصري والتي كانت تمارسها بتوسع منظمة بيضاء “الكوكلكس كلان” وكان السود لا يستطيعون فعليا التصويت في الانتخابات بفعل عوائق مقننة في الولايات الجنوبية!
في الجنوب كانت عملية تأسيس الكنائس الجنوبية السوداء هي مظهر تنظيمي للمقاومة حيث عمل “مجلس الكنائس الجنوبية “على تنظيم الدعم الثقافي والقانوني للسود بالإضافة لتجميع السخط في ممارسات طقوسية دينية وغنائية(جوسبل) Gospelوكانت موسيقي “الجاز” وغناء “البلوز” هما التعبير الثقافي للأفرو-أمريكي قد سيطر على الثقافة الموسيقية الأمريكية والعالمية فيما بعد! بالإضافة لذلك تأسس ” المجلس الوطني لتقدم الملونين”NAACP)”1869-1954)من السود وبدعم من شخصيات تقدمية يهودية! وهو المجلس الذي خاض نضالا قانونيا ضد التمييز والفصل العنصري الذي كان يعم الجنوب الزراعي ! بداية من سنة 1954 حدث تحول جوهري في نضال السود حيث انبثقت ما نسميه ”حركة الحقوق المدنية” والتي كانت أكبر حركة جماهيرية في أمريكا الخمسينات والستينات وعُرفت باسم قائدها الدكتور/القس “مارتين لوثر كينج Martin Luther King “صاحب الخطاب الشهير “لدي حلم” Ihave a dream والذي حاز على جائزة نوبل للسلام سنة 1964 !
كانت بداية الحركة في الفاتح من ديسمبر سنة 1955في مدينة صغيرة “مونتغمري ” Montgomery في قلب الجنوب عندما رفضت امرأة سوداء تدعىRosa Louise McCauley Parks, dite Rosa Parks التخلي عن مقعدها لرجل ابيض كما هو معمول به قانونيا في الجنوب تبعتها ناشطة معروفة هي “روزا كلارك” التي تم القبض عليها وتضامنت معها هيئات محاربة العنصرية والكنائس السوداء وعلى رأسها الفرع المحلي للمجلس الوطني لتقدم الملونين وقسيس شاب بدأ عمله بكنيسة “مونتغمري السوداء هو “مارتين لوثر كينغ. التحق ب “الدكتور كينج” عدد من الوعاظ الإنجيلين السود في مدن مختلفة لكى يكونوا” مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية السوداء” (C.S.L.C)
يؤرخ للحركة بالفترة الممتدة من1954 حتى 1968 وهي حركة كانت تستهدف تغيير سلمي وقانوني باستخدام وسائل الاحتجاج السلمي المعروفة من الإعتصام والمسيرات وساهمت العديد من المنظمات القاعدية في تأطيرها منها مدرسة شيكاجو للمنظمين الإجتماعيين والتي بدأها اليهودي “سول الينسكي ” وتدرب بها الآلاف من المنظمين الإجتماعيين وأشهرهم الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة “باراك أوباما”!
كان “المهاتما غاندي” قد سبق في اعتماد الحركة السلمية في الهند لمكافحة الاستعمار البريطاني وقد استفاد “دكتور كينج” من تجربة “غاندي”السلمية ومن نضاله الذي كُلل بالنجاح والإستقلال !لكن الخمسينات والستينات شهدت صعود حركات مسلحة فى أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية ضد الهيمنة الإمبريالية والديكتاتوريات العسكرية، وكان لهذا صداه داخل حركة الحقوق المدنية الذي تمثل فى حركات مسلحة ك”ألفهود السود”و”القوة السوداء” وقياديها المعروفين “ستوكلي كارمايكل” و”مالكولم إكس”الذي تحول لاحقآ ل”أمة الإسلام”.
ساهمت الهجرة الواسعة للسود في تحولهم الى مدينيين وكانت المدارس العمومية المكسب الذي سمح لهم بالتدرج داخل الإدارة والوظائف العامة لكن بقي التمييز العنصري ضمن الممارسة اليومية للأفراد والمؤسسات العامة والخاصة!
وكانت عملية التجنيد الكبيرة للسود في القوات التي حررت أوربا من الاحتلال النازي عنصرا هاما آخر. فعند عودتهم تحول العديد من هؤلاء الجنود المسرحين بعد ان دفعوا ضريبة الدم الى ناشطين في الحركة ضد التفرقة العنصرية !
بالتدريج بدأت الحركة النقابية تقبل انخراط الملونين ضمن التشكيلات النقابية المختلطة عنصريا بعدما كانت تستبعدهم وكان لهذا أثر كبير فى تثقيف السود واللاتين وكذلك تأطريهم ونهاية احتكار الطبقة العاملة البيضاء للعمل النقابي! في”ديترويت” (صناعةالسيارات )و”شيكاجو”(الحديد والصلب) وكذلك في موظفي الخدمة العامة (البلديات والمصالح الحكومية) وفِي أماكن اخرى في الساحل الشرقي والساحل الغربي بدأت القيادات الملونة تظهر داخل الحركات النقابية ومن ثم تؤثر في تدعيم حركة الحقوق المدنية!
كان للسينما والموسيقي والرياضة دورا بالغ الأهمية في تمكين العديد من الأفرو- امريكيين الصعود في المجال العام منذ بدأ الرياضيون السود يكتسحون مسابقات ألعاب القوى في الدورات الأولمبية ! مثل رفض بطل العالم “محمد علي كلاي” الذهاب ل”فيتنام” وقضاؤه فترة الحبس وخروجه وعودته بطلآ للعالم للملاكمة في الوزن الثقيل! حدثا أمريكيا وعالميا ساهم بشكل كبير في فضح التمييز العنصري! ناهيك عن الأعمال الموسيقية الهائلة لعشرات من الموسيقيين والمغنيين الأفرو-أمريكيين في الغناء وموسيقي الجاز والتي أصبحت الموسيقى الوطنية الأمريكية وغزت العالم بعد الحرب العالمية الثانية! عشرات من الفنانين السود أصبحوا في القنوات التلڤزية و على موجات الأثير وأجهزة الكاسيت ولَم يعودوا مخفيين في مقاهي وحانات الجيتو الأسود في “شيكاجو” و”نيو أورليانز” و”هارلم نيويورك”!
تحول الملونون من الحزب الجمهوري(حزب لينكولن) للحزب الديموقراطي الذي بنى استراتيجياته الانتخابية بدءا من الستينات على أساس تحالف جديد يضم الطبقة العاملة البيضاء في المدن الكبرى والأقليات والنساء وتحول الحزب الجمهوري لاستراتيجية جنوبيه(نيكسون) تضم ولايات الجنوب والداخل الزراعية والمحافظ!
استمرت في المدن الكبرى انتفاضات الملونين وكانت الستينات المضطربة في “نيويورك” و”شيكاغو” و”لوس انجليس” و”ديترويت” تتمة للصعود الجماهيري البالغ الذي بلغ أقصاه بالمسيرة الكبرى على العاصمة واشنطن(1963) ثم اغتيال الرئيس الشاب “چون كيندي”- (ديموقراطي/كاثوليكي )على مرأى من الجمهور في تكساس أحد معاقل النزعة الجمهورية والمحافظة وخلفه نائبه” ليندون چونسون” !
قام خليفته بالتفاوض مع قادة حركة الحقوق المدنية بقيادة “مارتين لوثر كينج “حول إنهاء الإضطرابات !وكان على الرئيس الجديد” ليندون جونسون” أن يستكمل ما بدأه كيندي وأن يستهل ولايته بتوقيع القانونيCiviRight Act”(1964)”Voting RightsAct”(1965″ و بذلك تكون الحركة المدنية قد حققت مكسبا تشريعيا هائلا وذلك بسن تشريع يعتبر حجر زاوية للقضاء على أشكال التمييز وتهدئة انتفاضات المدن التي عمت الولايات الأمريكية طوال الخمسينات والستينات.
خلال هذه المسيرة الطويلة حقق السود في أمريكا إنجازات كبيرة على كل الأصعدة سواء السياسية والثقافية حتى الوصول أول أسود للبيت الأبيض وسط تعبئة كبرى للملونين والأقليات وهو الأمر الذي أعتبره البعض انتصارا لحركة الحقوق المدنية ولذكرى “دكتور كينج” !
ثلاث عوامل هامة ساعدت حركة الحقوق المدنية لتحقيق الإنجاز الهائل الذي نرى كثيرا من نتائجه في الظهور الكبير للسود في مجالات متعددة سياسية وثقافية وعلمية بعد أن كانوا مستبعدين من التاريخ الأمريكي إلا كقوة عمل بسيطة ومقاتلين في الحروب او نزلاء للسجون:
1- توفر الأساس الدستوري الذي كتبه الآباء المؤسسون وهم مازالوا تحت ضغط قوة استعمارية هي بريطانيا وكانت ممارستهم الديموقراطية في المدن البعيدة عن القوة المسيطرة في الاجتماعات للمناقشات وانتخاب ألمسؤولين امتدت لقرنين من الزمان وهي كما يقول “الكسي توكفيل ” هي الأساس الي بنيت علية القواعد الدستورية اللاحقة.
2- تشكل حركة قاعديه في “مجلس الكنائس الجنوبية السوداء” ومنظمات صناعية ونقابية منظمة استطاعت أن توفر الانسجام ووحدة الإرادة وكذلك أمور لوچيستية ضرورية .
3- توفر قيادة استطاعت أن تعتمد على خطة واعية بالمنافذ الممكنة في النظام الدستوري الأميركي لإمكانية نيل الحقوق بنضال سلمي بقيادة “الدكتور كينج” وبدفع من المئات من المحرضين والمنظمين اللذين كانوا أمرآ لايمكن الاستغناء عنه في نضال طويل وصعب.
وكان الشعار المركزي الذي صاغه كينج في أحد خطاباته الشهيرة “لا تقدرني على أساس لوني! انظر لمجمل شخصيتي” Ce qui compte, chez un homme, ce n’est pas la couleur de sa peau ou la texture de sa chevelure, mais la texture et la qualité de son âme.
وهو شعار بسيط استطاع ان يجمع حوله الملونين وكثير من البيض وخاصة في الأحياء الفقيرة وطوائف أيديولوجية متنوعة بدءا من المتدينين الورعين الى الملاحدة والشيوعيين!
-تشكل تيار ثقافي عميق في الكتابة والسينما والموسيقى والغناء سمح بأن تشتمل الحركة على تعبيرات غير الخطابة والتنظيم السياسي المباشر !وسمح كذلك بالتعريف بها على مستوى جماهيري واسع وتغيير الصورة النمطية للأسود كرجل عنف وعصابات إجرامية ليصبح ملهم لأجيال شابه في قارات العالم مثل” بيلى وندرز” و”أرمسترونج” والمقدمة التلڤزية”أوبرا وينفري” والمغنيات “شيرلي باسي” و”بيونسيه” (ضمن آلاف )،الممثل الكبير “ستنانلي مورجان”والمخرج العظيم “سبايك لي”!طبعآ هؤلاء ضمن آلاف من المبدعين الأدباء والرياضيين والفلاسفة والأكاديميين سود البشرة الذين استطاعوا “في النهاية”(كما تقول أغنية لبيونسية)الخروج من الجيتو الذي وضعتهم فيه العنصرية البيضاء خلال قرون لتحافظ على امتيازاتها الثقافية والاجتماعية!
-الرياضة الشعبية الأولي في الولايات المتحدة هي كرة السلة وغالبية نجومها من الأفرو-أمريكيين وهم ملهمين للشباب والشيوخ والغالبية من الأمريكيين يعتبرونهم مثال للنجاح والعديد منهم يقومون بالعمل في حملات ضد التمييز العنصري وأصواتهم مسموعة للكافة!
ليست العنصرية والاستبعاد سلوكا فرديا ولكنها تكوين “ثقافي -سياسي” اجتماعي متوارث وتاريخي وانتصار حركة الحقوق المدنية ليس شاملا ونهائيا، والدليل هو انبعاث شعارات العزل والعنصرية والتي يمثلها مشروع “ترامب” لحائط الحدود الفاصل في مواجهة اللاجئين من بلدان امريكا الجنوبية وقوانين التجنس التي يحاول إقرارها بصعوبة وكذلك انبعاث الحركات العنصرية الجديدة التى تنتشر في المدن الصغيرة فى الغرب الأوسط والجنوب والموجهة ضد فئات متنوعة من مسلمين ولاتينيين واسيويين!
مازالت ممارسة التمييز العنصري قائمة في كثير من الممارسات اليومية لكن الأساس القانوني له قد تم تصفيته عبر قرنين من الكفاح السلمي و التعبئة القاعدية وهناك مشكلة حالية تناقش في المجتمع الأمريكي وهي عنف رجال الشرطة في التعامل مع الشباب الملونين ولا تمضي سنة دون ان تقع ضحية لهذا العنف، و تعقد المؤتمرات وتسيير المسيرات ،ويقدم مرتكبي الجرائم للمحاكمات ،ذلك لإن الأساس القانوني لإدانة وتجريم تلك الممارسات قد تمكن الملونين في أمريكا من إنجازه ولَم يكن ذلك ليتحقق الا عبر النضال الدؤوب ل”حركة الحقوق المدنية” التي صار لقائدها “مارتين لوثر كينج ” نصبا تذكاريا من أهم المعالم في الولايات المتحدة وصار له يوم لذكراه هو عيد قومي وإجازة من العمل في كل الولايات المتحدة!
النضال السلمي يشترط توفر شروط من حرية التعبير وحرية التنظم وحرية الإعتقاد تضمنها القوانين والدساتير(التعديل(الإضافة) الثاني للدستور الأمريكي)! وهذا ماحرص عليه المؤسسون فى كتابة الدستور الأمريكي بما يتيح إضافات (تعديلات)عقب كل تغير فى تركيب السكان والحاجات الاجتماعية والسياسية! “نكتب وثيقة للحكم ينبغي إجراء تعديلات عليها كل عقد من الزمان!لأن الأموات لاينبغي أن يحكموا الأحياء”
توماس چيفرسون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى