الأولىمقالات

وهج البرتقالي…بقلم جلال الرويسي

بهجة البرتقالي

 

أمشي كلّ صباح في مواجهة البرد القارس بذات الإصرار والعزيمة، وعيناي لا تفارقان الأفق بانتظار إطلالة القرص البرتقالي من وراء الأفق. أمسح بظهر كفّي الحرشاء المذبّحة دمعا ترشح به عيناي. وأنفنف خياشيمي كي أحبس سائلا لزجا يكاد يقطر من ذؤابة أنفي المحمرّة كأنف المهرّج. أنفث نفسا أبيض حارا كالبخار وأدوس على الحشيش المغلّف ببلّور الصقيع الهشّ فيتفّتت كالبسكوت تحت قدميّ اللتين فقدت الإحساس بهما.

ألا يوجد لون أبهج من البرتقالي؟ كلّما قارنت بينه وبين سائر الألوان ازدادت فتنتي به وانجذابي إليه. حصل أن شدّني البنفسجي لفترة. وجدت فيه حنينا مكتوما ورومنسية حالمة. لكنّه لم يكن مبهجا. فانصرفت عنه لأنّه طافئ وحزين، لا يليق بطفل فقير مثلي. وعدت إلى وهج البرتقالي يدفئني من برد الشتاء الكافر.

أتّخذ من رسم الشموس والبرتقال والجزر والمصابيح طوال النهار تعلّة كي أغمرها باللون البرتقالي. وأصعد إلى سطح المنزل كلّ غروب أتابع بعينين شاخصتين الأفق مغلّفا بشعاع القرص البرتقالي الآسر الذي يتوارى بنعومة وسرعة وراء الجبل…

أمرّ حذو أشجار الزيزفون العارية من أوراقها وأزهارها ذات اللون الأصفر الحليبي الهادئ. أشمشم الأغصان بمنخريّ كقطّ يتقفّى أثر طعام، بحثا عن تلك الرائحة الراشحة بالشجن التي كم أسكرتني بعبقها فأشفق لحال الزيزفون شتاء وأجده أشبه ما يكون بزجاجة عطر خاوية.

في الليل، أتسلّل بين معاطف الرجال الطويلة وهم يتدافعون أمام قاعة السينما ليتفرّجوا على افلام رعاة البقر فألج القاعة دون أن يتفطّن لي قاطع التذاكر، أو لعلّه كان يتظاهر بذلك حتى لا يحرمني من الحلم.

كان رعاة البقر يسحرونني بقبعاتهم الجلدية الملفوفة قليلا إلى أعلى من الجانبين، وبأحذيتهم الطويلة الأنيقة ذات الصفائح المعدنية اللماعة. كانوا جميلين كلّهم. الأبطال منهم والأوغاد. زغب لحيّهم المتلألئ على ذقونهم غير المحلوقة، وجباههم المصهودة بالشمس حتى صارت بلون النحاس. بطل شجاع يطارد قاطع طريق وغد سطا على قطار بضائع في صحراء الغرب الأقصى وفاز بحقيبة ملأى بالدولارات. يربط حصانه الرشيق أمام الفندق الخشبي في ساحة القرية ويدفع البوابة الواطئة بقدمه فتصطفق الدفّتان في حركة عكسية جيئة وذهابا. يشقّ القاعة بمشية واثقة وموقّعة، باتجاه مصرف الحان حيث ينتصب عجوز نحيف بعينين لامعتين. يمرّ بجانب الوغد المنحني وسط القاعة تحت مروحة السقف على طاولة بلياردو معالجا كراتها بمهارة. يتجاهل كلاهما الاخر. يسند الزائر مرفقه إلى المصرف مديرا ظهره للجميع ويردّ على من يخاطبه دون التفات إليه. يحكّ عود الثقاب برشاقة على نعاله فيقدح النار ويولع سيجارا مثبّتا بين أسنانه. يحافظ على السيجار في مكانه لمّا يتكلّم دون أن يسقط. ومن وراء النافذة يتبادل نظرة مع حسناء شقراء تقف في شرفة غرفة تقع على الطرف الآخر من الفندق.

يحمحم الحصان وينفخ بمنخريه ويضرب الأرض بحوافره تحت شمس تثقب الجماجم. ويكون ذلك منذرا باقتراب المواجهة التي نضجت على نار هادئة.

تنشد أنفاس المتفرّجين إلى مشهد المواجهة بين البطل والوغد وهما يمشيان باتجاه بعضهما. كل يركّز نظرته على الآخر دون أن يرمش له جفن. واليد تتأهب لسحب المسدّس والضغط على الزناد. ما يسمع في القاعة ليس الموسيقى التصويرية بل دقات قلوب المتفرجين. متى ستنطلق الرصاصة القاتلة؟ الرصاصة التي تعيد إلى المتفرجين أنفاسهم.

كنّا نرى حياتنا جميلة لأنّ الحلم فيها ينتصر على الفقر والظلم بالضربة القاضية، إلى أن فاجأتنا الحرب فعلّقت كلّ شيء على حاله لحظة اشتعالها. استبشرنا بها في البداية، وقلنا أنّها ستنسف الظالمين وتنصف المظلومين، فيسترجع العشب نظارته والبرتقالي وهجه والليل سحره والزيزفون عبقه. لكنّها لمّا طالت، بدأنا نكتشف أنّ رعاة البقر ليسوا نبلاء يلاحقون الأوغاد من قطّاع الطرق كما صوّرتهم لنا الأفلام، وإنّما هم سفلة يبيدون أهل البلاد الأصليين دون شفقة ولا رحمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى