نساء مبدعات

سيرة رجل…بقلم: رانية عفاس

 

مرّ من بين السيارات بصعوبة ثم توقّف حين اشتعل اللون الأحمر في الإشارة الضوئية التي تبعد عنه عشرين مترا تقريبا. بجانبه زوجته تقول كلاما كثيرا. تخرج رأسها من فتحة الباب وتشتم رجلا تجاوز سيارة زوجها:

ــ سكان هذه المدينة متهورون ولايحذقون السياقة. أكاد لا أصدق، كيف سأحتمل العيش هنا يا قاسم؟

  عشرون ثانية وينبلج الضوء الأخضر. وهو يعصر سيجارته بين شفتيه كأنها المذنبة الوحيدة في حقه، أخذ نفسا طويلا ثم قال: سوف أعود غدا بمفردي لمواصلة البحث عن منزل وأنت اعتني بشؤون أبنائك.

ــ لقد قابلنا أكثر من ثلاثة ‘سمسارة’ وكلهم أخبرونا بأن المنزل المناسب لنا غير متاح حاليا؟ ما الفائدة من عودتك إذًا؟

وجهت إليه فهيمة نظرات تجمع ما بين والأناة والقسوة. ثم سرعان ما لوت رقبتها نحو الأمام وأخذها شرود طويل بعيدا عن ضوضاء الطريق الرئيسية، ﻟﺘﺴﺘﻠﻘﻲ ﺑﺨﻴﺎﻟﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺷﺎﻃﺊ ﺑﺤﺮ ﺑﻮﺟﻌﻔﺮ ومن رحمه يلفظها في مرسى القنطاوي، كأن البحر والدها السحري وكأنها ابنته الوحيدة المدللة. تتبعه بأمان نحو ‘شط مريم’ حين تتعب من السباحة تبعثر بأناملها خصلات الموج وتشكل من خيوط الشمس جدائل للطفلة التي بداخلها ومن الرمل منزلا أحلامها. فهيمة عاشقة للمذياع والمظلة المشدودة إلى لحاف من الأطراف والقهوة ‘ديراكت’ وخط الأفق هنالك أين تحرس أحلامها البعيدة وأطفالها وهم يسبحون. فهيمة عاشقة لبلكونة  شقتها المطلة على ‘الكرنيش’ وعيون المنارة التي تحرس لياليها وشبابيك بيتها العالية الفرنكفونية الاستعمارية.                                              

قريبا سيتكسر ذاك النسق الجميل. صوت دوران المفتاح في باب البيت، مشيته إلى غرفة الجلوس حاملا ورقة بيضاء من ذنبها. مشهد استعصى عليها نسيانه. نبراته مازالت تصدّع رأسها: هذه برقية نقلتي إلى الجنوب. كان البيت يخلو إلا من حضورها الباهت. ندّت من فمها صيحة تكاد ترتج لشدتها أعمدة العمارة: ماذا؟ نقلوك؟ يا إلاهي؟ من نقلك؟ ولماذا؟  

علت المزامير ثم خبت حينها ألقى قاسم سيجارته. ضغط على المكبح وانطلق. سارعت ألسنة الشمس إلى وجه  فهيمة لتستفز بشرتها البيضاء فنزعت الوشاح الأبيض من رأسها وسوّتها ستارا للنافذة. وبحركة مفاجئة فتحت ربطة شعرها وأسدلته على كتفيها وكأنها تريد أن تخبر زوجها: لست كبيرة بما يكفي لتدفنني بين واحات الجريد يا قاسم ولست صغيرة أيضا لتتجاهل مواقفي وآرائي.. احتمالان لا ثالث بعدهما ما أصابتنا إلا عين قوية لحسود أو سحر لحقود؟ هذا ليس بالأمر الهين أن ينقلوك بعد أكثر من عشرين سنة من العمل بالساحل. وليس بتلك البساطة أن يترك أبناؤك معاهدهم ومدارسهم وأصحابهم وقد ألفوهم. هدوء غريب يطغى عليه رغم ضجيج الشارع وحالة الاحتقان التي تبدو على زوجته. ليس من العدل أن تغضب بمفردها وأن تفرح بمفردها أيضا. فكيف لا يشاطرها أقرب إنسان إليها شعورها بالضيق والتبرّم وهو المتعود على اقتسام الحلو والمرّ معها؟ تريده أن يتكلم ويصرخ، أن ينتفض ويتمرّد، لا تريده أن يثور ثوران الغبار إثر هبوب الرياح بل تريده أن يثور ثوران الجنود في المعارك. فالغبار ينتكس بعد العاصفة والجندي إما أن ينتصر أو يموت. ‘وأنت يا قاسم إما أن تفعل شيئا أو نذهب جميعنا إلى الجحيم’

   ــ “باش نصبْ بيدون إيسونس”. انعطف بسيارته إلى طرقات ضيقة ضيق صدر فهيمة. توقف عند دكان وقال: 

               ــ لقد ارتفع سعر البنزين المهرب إلى الثلاثين دينارا وهؤلاء ‘الكنتارية’ دلني عليهم مجدي.

ـــ  أليس من الأجدر أن يعثر السيد مجدي على منزل مادام يعمل هنا منذ زمن طويل؟ ثم إنه غريب أمركما، كيف تشتغلون في القوانين وأنتم تتعاملون مع أولئك الذين يخالفونه؟

ــ هنالك أمور لا يجب أن نتساءل عنها يا فهيمة.

ــ تقصد سبب نقلتك من ‘الشرطة العدلية’ إلى هذه المدينة الخانقة.

حملق فيها فاغر العينين وقال مبتلعا ريقه:

 ــ المهم أننا ربحنا كميات وقود إضافية مقارنة بمحطات البنزين.

أخرج قاسم أوراقا من جيبه وبقي ينتظر أحدهم ليأتي إليه محييا ويسأله: كم لترا أزودك به ‘خويا العزيز’؟

صمت برهة ثم قال:

 “صبلي بيدون متاع عشرة ليتر”. –

حينما تتعانق عيناه العسليتان مع الشمس تأخذان لون السائل الذي ينسكب للتوّ في خزان سيارته. ناوله البائع مفتاح خزّانه وأخذ يلوح بطرف ورقة العشرين دينارا محدقا في قاسم وهو يغادر دون أن يقول وداعا.

حينما تجاوز محطة الاستخلاص وبلغ الطريق السريعة، أخذ يطير بسيارته الصغيرة وخُيّلت إليه يداه الماسكتان بالمقود جناحين محلقين في عوالم الذات بعيدا عن ثرثرة فهيمة. 

أسقطت حصص الاستمرار الليلية خصلات شعره باكرا جدا. كلما سقطت شعرة إلا ونال شهادة شكر وتقدير. بدأ مسيرته المهنية ضابطا مساعدا وحاليا يشغل خطة رئيس مركز. قاسم الخمسيني، رجل عصبي وحنون.. يغضب مثل الأمواج التي تحركها رياح عاتية ولكنه ينطفئ مثلها أيضا حين تهدأ العاصفة. العاصفة تتشكل في مدخوله الذي سينتهي قبل موفى الشهر، وفي بعض الأحيان عناد زوجته، طلبات أولاده. يشتري قاسم أدباشا لأبنائه الثلاثة من الأسواق الأسبوعية. بينما يداوم هو على ارتداء الثياب التي اقتناها قبل أشهر من الزواج. يخصص قسطا من راتبه للكراء وتكاليف الكهرباء والماء وشبكة الأنترنات وقسطا آخر لمصاريف الأكل والشرب ليضمحل قبل عشرة أيام من منتهى الشهر مثل شمعة سريعة الذوبان.. سريعة الهبوب أيضا هي تلك الأوراق النقدية ذات العشرة والعشرين تزامنا مع مرور عجلة الاقتصاد التي أفقدت الدينار الوطني قيمته. ورقة الخمسين الجديدة مستفزة وساخرة. وقاسم يرفض أن تفقد الأشياء الثمينة هيبتها والثوابت أعمدتها لذلك يرفض مبدأ تشكيل الخمسين دينارا في ورقة… اكتشفها لأول مرة في البنك حينما ذهب لاقتراض ستة آلاف دينار. رآها وهي تخرج من رحم آلة الكترونية عجيبة. لفظتها بسرعة مذهلة واستقرت في يد المحاسب البنكي ليشكلها حزمة متينة ثم سلمها إلى قاسم. وضعها في جيب معطفه الجلدي ثم في يد صاحب السيارة الجديدة التي اختارها من بين سيارات كثيرة معروضة للبيع في ‘سوق الخردة’. قادها بتؤدة وحذر إلى أن وصل إلى بطحاء العمارة. ظل يزمر مرارا كي يعلن قدومه. فتزحلق أبناؤه على درج العمارة وهرعت فهيمة إلى البلكون ثم اختفت بضع دقائق لتعود وبيدها كانون صغير ‘يعجعج’ بالبخور. ضحك قاسم بهدوء كي لا يوقظ فهيمة. ضحك بكامل حواسه حتى خيل إليه بأن كل المسافرين يرمون البخور مع فهيمة ويشبكون أصابعهم ثلاث مرات ثم يضعون حبات البركة أسفل المقاعد وفي الجيوب الأمامية للسيارة.                   

    استقبلتهما جوهرة الساحل بعد أربع ساعات من السفر. حينئذ نهضت فهيمة من نومها وتنفست الصعداء. سألت زوجها: لم نعثر بَعْدُ على بيت أليس كذلك؟ لمَ لا تقدم مطلب رفض يا عزيزي؟ ثم غرقت في النشيج كأنها طفلة صغيرة أضاعت دميتها.

أمضى قاسم ليلته ينصت إلى أحاديث قلبه وعقله تارة ويناجي الله تارة أخرى وفي الأثناء يستمع إلى صراخ فهيمة وغمغماتها بين الكابوس والآخر. صباحا باكرا لم تجرؤ فيه الشمس على البزوغ، ركب قاسم سيارته وانطلق نحو قابس. حين قطع نصف المسافة كان قد أنهى قهوة ‘الفيلتر’ ولم يترك في الكأس قطرة واحدة. توقف ليأخذ قسطا من الراحة لعل غمامة الصداع تنقشع من رأسه فقد احترق هذا الرأس الأصلع الأشيب من شدّة التفكير.

أشعل سيجارة وطفق يتنفسها. كانت تلك سيجارته الأخيرة.

أقاموا له جنازة عظيمة، زفّوه إلى مضجعه الأخير كما يزفّ الشهداء والمناضلون. اتصل بها موظفو تعاونية الأمن وانهالت عليها وأبنائها المساعدات والمنح.     

ظلت الأرملة تردد طيلة أيام: هم قتلة زوجي. تخلوا عن مهامه بعد عشرين سنة من التفاني والجدية. 

بعد مضيّ أربعينية قاسم تركت صغارها نائمين وذهبت إلى مركز الشرطة العدلية وظلت تصرخ في البهو.

ــ من المسؤول هنا عن نقلة الموظفين؟ من نقل قاسم زوجي؟ وارتمت على الأرض تشهق بالبكاء.

لا يوجد مسؤول هنالك غير حُفّاظ الأمن فقد غادر الضباط ورئيس الفرقة في مهمة دورية. أخبرها أحدهم بأنه حديث العمل هنا وأخبرها آخر بأن زوجها رجل طيب وإنساني.

رفعوها عن الأرض، نهضت بعسر كأن عظامها اكتست بالرزايا وعروقها يبس الدم فيها. الحب كان لها النهر والنبض وكل الحياة كانت لها قاسم. أقفر شارع ‘الكرنيش’ فلا تسمع سوى تلاطم أمواج ‘بوجعفر’ وصهيل خيول العربات السياحية. توقفت فهيمة أمام سيارة زوجها التي لم تقدها قط.إنها رابضة حذو العمارة الفرنكفونية منذ أسبوع. خيّل إليها قاسم جالسا في مقعد القيادة ينتظرها وعلى وجهه تلوح ابتسامة الرضى: ‘لقد أصلح زملائي سيارتي وصارت أفضل بكثير من قبل، أريدك أن تتعلمي القيادة وتأخذي على عاتقك المسؤولية يا زوجتي العزيزة وإياك أن تقودي بتهور’. ضمّت وحدتها إليها وجلست في المقعد الأمامي. فتحت درج السيارة فوجدت الحبات السوداء في مكانها والحرز الذي خاطته له في مكانه أيضا. ماذا سيضع غير علبة غيار وبعض المسامير ومفاتيح البراغي وخرق قماش قديمة لثياب غير مستعملة؟ ترى هل باح لها في رسالة سرية عن سبب نقلته إلى الجنوب؟ ترى هل ستعثر عن إجابة لتساؤلاتها بعد فوات الأوان؟ باتت تجمع الذكريات في سيارة الزوج الصغيرة وعيون المنارة تطل عليها بين الفينة والأخرى تحرس وحدتها وتشعل في عينيها بريقا من حزن عميق.

  

             

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى