تقاطعات…بقلم: احمد بن بلقاسم

صفرّ العالم و دار ، دارت معه الجدران و الصّور .. و انصفق شيء بعيدٌ بعيدٌ ، تخيّله جسمًا يهوى من سابعِ سماءٍ … تحسّس الرّطوبة السّاخنة على جبينه .. لزجةٌ كانت و سريعة التدفّق ؛ تضارعُ الشّعر في انسيابها ، تحاكي المطر الغزير في انهمارها ، تضاهي الصّوت الذي كان يسمعه منذ قليل ..
مثل الزّلزالِ العنيفِ كانت الدّفعةُ ، تداعت لها كلّ أطراف الجسدِ .. من غياهب القلبِ و ظلماته ناداهٓا و تقيّأ أمعائه ..

عندما انصبّ إسمها في أذن أحدهم قال :
– و من عساها تكون أمّك ؟ .. مُومسٌ مرّ عليها كل رجال المدينة !
استولت عليه رغبةٌ جامحةٌ في الرّاحة و الاستلقاء ، لاحت في خاطره أرضٌ بعيدةُ الأفقِ ، واسعةُ الأرجاءِ ، أغمض جفنيه ، و راح يحلمُ كما يحلمُ الأطفالُ ..
كانت الحُجرةُ ضيّقةً ، ضيّقةٌ جدّا لكنّها بحجمِ الوطنِ .. صورُ الغائبينٓ المعلّقةُ على الجدارِ المتهالك المتداعي للسّقوطِ يرنون إليه .. يلمحُ عيونهم تتحرّكُ في محاجرها ..
لا شكّ أن أرواحهم تلتحمُ بصُورها في بعض الحالات ..
الأحبّةُ الذّين تعوّدوا زيارته مساء كلّ سبت ، فات موعد حضورهم هذه الليلة ، تأخّروا أكثر من اللازم .. لا بدّ أن أمرًا خطيرًا قد حدث .. سيسكبُ كأسًا أخرى قطْعًا للهمّ ..
رفعٓ بصرهُ إلى الصّور التي فقدت بريقها ، لم تبق منها إلاّ العيونُ و الشّواربُ ناصعة السّوادِ ..
تساءل في سرّه :
_ ما عساها تقول عيونُ الموتى المُحدّقة فينا ؟
لماذا تحمل نظراتها كلّ هذا الألمِ ؟ أتراها مهمومة هي الأخرى ، تريدُ أن تُداوي جراحها مثلما نتداوى نحن بهذا السّائل الأحمرِ المكروهِ .. تتشمّمُ السّلطة رائحته ، تلاحقهُ أينما حلّ .. و بوليسُ السّلطة لا يترك الأحلام تمرّ دون اجهاضها .. دُون التحرّي عن لونها و طبيعة انتماءاتها ! ..
طفا على سطح ذاكرته شيء ، سمعه أو قرأه ، في حالة صحوٍ أو في حالة سكرٍ ، حاول تجاهله لكنّه ظلّ يخدش الوعي و الذّاكرة .. أحسّ بهالةٍ نورانيّة تأخذ بصرهُ ، أدرك أنّ الحملقة في الصّور كالنّظر مطوّلاً نحو الشّمس ، لا يرى بعدها الانسان إلاّ العتمة ..
عاد إلى المنشورات القديمة المبعثرة في أرجاء الغرفة ، مازالت أمامه تتشرّب السّائل المُراقٓ ، تمتصّه في تلذّذٍ و لوعةٍ …
– « حتى الورقُ كره عالمه ، يُريد أن يرحل بعيدًا عن الأخبار الحزينة التي تسكنهُ .. ينساها للحظاتٍ .. يمحوها من ذاكرته .. »
و عنّ له أن يُشارك الغرفة و الصّور ما يختلج بصدره ، أن يتساءل مثلاً بصوتٍ مسموعٍ عن السّبب الذي يدفع الجرائد الى السّكر ؛ في داخله إقتناع بإمكانيّة سماع الجواب من الورقِ نفسه ..! أكيد أنّه سيبوح بمكنوناته عاجلاً أم آجلاً ..
قبل أن يتكلّم ، جلْجلٓ صوتٌ في أرجاء الغرفة يتوهّج كالجمرِ في ليلةِ شتاءٍ :
– « هُمومُها أثقلُ من همومك يا صاحبي ، هي تشربُ لنفسها و لعيونِ الرّاحلين الذين ضحّوا بحياتهم من أجل الوطن .. »
إلتفت الى مصدر الصّوت .. لا أحد سواهُ و القاروراتُ الفارغةُ و الصّورُ المتزاحمةُ ..
– لا شكّ أنّني أهذي و أسمعُ أصواتًا من عالم الوهم .. أسرفت في الشّرب و السّائل الأحمر غيرُ متوفّرٍ .. باعةُ اللّيل وحدهم يملكونه ..
رجعُ صدى الصّوت لا زال يهزّ كيانه ، رجع الى التّفكير في الجريدة .. لا بدّ له أن يعرف بعض الذّي تحملهُ .. أفرغ الكأس في جوفه ، أبعدها ، أبعد القارورة ..
– « لتذهب إلى أخواتها ، فالغُربةُ صعبة يا أمّي ! »
و اندلق في داخله شيء ، لا يعرف كنههُ و لا ماهيّته ، أرقّ من الشّعر ، أحرّ من الجمر …
صرخ بصوتٍ حادّ :
– « عظيمٌ أنت أيها الكاتب الذّي عانى كل هذا الأسى ، مسكينٌ أنت أيّها الذي ستشربه ! »
– « أنت تكتبُ يا صاحبي ، و الكتابةُ خطر عليك و عليّ في هذا الزًمن .. »
استرجع صورتها في نفسه ، تأجّجت في ظلماء الدّاخل ككرةٍ من نار .. تساءل :
– « هذا الصّوت يشبهُ صوتها ، يكادُ يكون هو .. أتراها دخلت معي الحُجرة ساعة دخولي و سُكري يعميني عن رؤيتها ، أم أنّها حاضرة دومًا في الذّات و صوتها هو أنا ؟ …
لا بدّ أن أستجمع ما تبقّى من صحوي و أعانقها ، فالشّوقُ جنونٌ و الكتابةُ عريّ …
و تذكّر رائحة التّبغ و النّبيذ و الجرائد المهمومة .. و الشّهداء يحملقون دوماً في هذه الحُجرة الضيّقة ، تغشى وجوههم مسحةُ المعاناة و الكآبة .. همس لها :
– « لا ترتعبي ، فأنا لا أريد الكتابة عنك ، لا أريد تعريتك و انّما أريد تعرية ذاتي … عُريّك يحتاج إلى طقوسٍ خاصّة ساحرةٍ .. داوي جراحك بكأسٍ إن رغبتِ .. افترشي همومك بجانبي .. توسّدي الأوجاع و نامي في إنتظار وصول الأصحاب الذين أبطأوا على غير عادتهم .. بطانيّاتُ الحُزنِ هناك ، هل ترينها ؟ … تناولي ما يحميك من جليد آخر الليل ، و اتركي البقيّة لي و لهم » ..
هدْهدهٓا و شرِب كأسهُ الثّانية و العشرين ، قدّر هذا من عدد القارورات الفارغة .. انتظر أن يُجلجل صوتها ثانية ، أن تقول له :
– « أنت تحبّ أيها الكاتب ، و الحبّ خطرٌ عليك و عليّ في هذا الزّمن » ..
و لكن الصّمت يُخيّم على المكان .. لا شكّ أنها نامت أو سكُرت أو لم تحضر بتاتًا .. مُحالٌ ان تنامٓ .. محالٌ أن تغيبٓ …
ركّز ذهنه لعلّه يستردّ بعض وعيه :
– « هل هي هنا حقيقةً ، أم أنها حالة سكرٍ و أنّني على وشك القيء ؟ »
– « ثمّة تناقضٌ بين ما ترفعه الحكومة من شعاراتٍ و ما تُمارسه على أرض الواقع » ..
يصيحُ السّاقي متذمّرّا ..
و يحتجّ الحاضرون على سياسة التّضييق على الحريّات المنتهجة في حقّهم ، يكثرُ اللّغطُ و تتحوّلُ الحُجرةُ الضيّقةُ إلى ساحةٍ للتّظاهر الشّعبي ..
يتدخّل أحدُ الجالسين :
– « للجُدرانِ آذانٌ أيّها السّكارى .. »
يصرخُ آخر بأعلى صوته :
– « كيف يمكن أن نصدّق شعار الحريّة إذا كنّا طوال الوقت خائفين من تكميم أفواهنا ؟ لا بدّ أن تتحوّل احتجاجات الغرفة الضيٌقة الى السّاحات العامّة .. لا بدّ » …
و يزلزلُ البابُ ، ترفسهُ حوافر حديديّة ، ترجّهُ ، يعاني ألم الانكسار .. يصفعهُ تيّار قطبيّ يُطيّر الجرائد و نشوة السّكر ، ينثر بقايا السّجائر و رمادها .. يتقلٌص حجمُ الغرفةِ ، تخنقها الكآبة .. تتسمّر العيون التي كانت تتحرّك في محاجرها .. يفتقدُ السّاقي و صوته و بقيّة وجوه الخلاّنِ .. يرى وحش الرأسمالية يبتلعهم كل ليلة ، يلفظهم غروب كلّ شمس :
– « وحدي أنا يا امّي ، غريبٌ و الغربةُ صعبة في هذا الزمن .. مهمومٌ أنا و لا يضمّد الجراح سوى الاعتصام بوجهك ,
وجهك مازال يمنحني حرارة الحياة رغم غيابه ، و صوتك سيظلّ هاجسي أبد الدّهر .. »
قال عندما انصبّ اسمها في ٱذنه :
– « و من عساها تكون أمّك ؟ .. مومسٌ مرّ عليها كل رجال المدينة ! .. »
اصفرّ العالم و دار ، دارت معه الجدران و الصّور .. و انصفق شيء بعيد بعيد ، تخيّله جسمًا يهوى من سابع سماء … تحسّس الرّطوبة الساخنة على جبينه .. لزجةٌ كانت و سريعة التدفّق ؛ تضارعُ الشّعر في انسيابها ، تحاكي المطر الغزير في انهمارها ، تضاهي الموت الذي كان يسمعه منذ قليل