أخبار ثقافيةالأولىمقالات

غرامشي والإيديلوچيا – حسني عبالرحيم

قراءة في فكر غرامشي

ماهي الإيدلوچيا ؟

القول بأن “الأيدلوچيا السائدة هى أيدلوچيا الطبقة السائدة في علاقات الإنتاج”…هذه فرضية ماركسية  تقليدية وغير ماركسية أحيانآ…المشكلة في التخريجات المختلفة من هذه المقولة التى جرت على ألألسنة وفي المقالات والقهاوي وعلى البارات!

طبعآ ندافع هنا عن مفهوم نتصور أن المرحوم “كارل ماركس” يعنيه فله كتاب معروف هو “الإيدلوچيا الألمانية”(1845) ينقض في صفحات عديد من الكتاب (ماكس شتيرنر أوتو باور وآخرين) اللذين أعطاهم أسم تهكمي (القديسين)في كتاب سجالي آخر هو “العائلة ألمقدسة (نقد النقد النقدي)(1844) بحسب ماركس وفقآ لتخريجاتنا فإن الإيدلوچيا هى وعي مزيف  وهي صورة غير حقيقة للعالم الموضوعي يُعبر عنها في ممارسات متنوعة ونظرات للعالم! و هي بالتالي ليست مجرد الأفكار المعروضة في فلسفة متماسكة !هي المحتوى الذي يتغلغل  في الممارسات الخطابية (دين وأدب وحكايات   وأفكار حول الوجود..الخ وغير الخطابية كالطقوس والموضة والرياضة الجماهيرية والمفاهيم والحس المشترك في مجتمع معين وفي حقبة معينة وربما تمتد لإيديلوچيا معينة عبر مراحل وحقب مع تعديلات(المسيحية)! الإيدلوچيا معاكسة للعلم الذي هو إدراك ممنهج للعالم الموضوعي! لايتم اختراع الأيدلوچيا هى تخلق من  خلال علاقات الإنتاج والتبادل وليس خارجها ولكنها تجد تعبيراتها المتبلورة في عقول وكتابات رجال ونساء يمتهنون الوعظ والكتابة وهذا ما يرمز إليه ماركس من وصف مجموعة لأفكار أفراد هم مثقفون ألمان مرموقين !بأنها “أيدلوچيا المانية”!

يمكننا بشكل مؤقت الحديث عن أيدلوچيا عبودية وايدلوچيا إقطاعية وأيدلوچيا بچوازية ولا يمكننا أبدآ الحديث عن أيدلوچيا بروليتارية! الإيدلوچيا البرچوازية بالذات هى ذات دلالة خاصة ذلك لأن علاقات الإنتاج الرأسمالية قد تشكلت ونمت داخل نمط الإنتاج الإقطاعي عبر تشكل الحرف والكمونات المدينية ومايسمى “بورج” وعندما صعدت البرچوازية لمستوى السيادة السياسية كانت أيدلوچيتها قد تغلغلت في  البنى الإقطاعية التى كانت تحميها قوة النبلاء ثم أتت الملكيات المطلقة التى شكلت توازن وإنتقال بين مرحلتين !

تنتج مباشرة من الإيدلوچيا مسألة الثقافة والمثقفين!من هم وماذا نعني بمفهوم الثقافة!من المفترض أن المجتمعات الطبيعية لايربطها فقط علاقات إنتاج فلكي يتحدد وجود الجماعة يفترض وجود لحمة بينها في التصورات العامة(بعضها تقني) والممارسات الدينية والتصور العام عن الكون وممارسات طقوسية ومرويات عن الأسلاف! مجمل هذا يسمى الثقافة المجتمعية (culture) وبينها وبين الزراعة(Agricuture) صلة حميمة فالمجتمعات التى توصلت لإحداث تراكم في هذا المجال كانت مجتمعات زراعية طورت معرفة تقنية وكذلك أنظمة تفكير وجودية(systèmes des pensées) وكان هذا بالأساس في بلاد نهرية تضمن الزراعة المستدامة. تكونت حول الثقافة فئة من المتخصصين يقومون بالتأليف والتفسير وإقامة والسهر على الشعائر (المثقفين)!كانت بداياتهم رجال الدين والفقهاء والأكليريوس الذين يعيشون من جزء من الإنتاج الاجتماعي ولا يشتركون في صنعه !تقوم الطبقات السائدة بالإنفاق على هذه الفئة لدورها الحاسم في الانضباط الاجتماعي والتماسك الضروري داخل الجماعة حتى تسير عمليات الإنتاج والتراكم بسلاسة وهى ليست جزء من جهاز الدولة الرئيسي الذي يتخصص في الإجبار المادي(الجيش -البوليس -المحاكم- السجون)!المثقفون لا يأتون من أبناء الطبقة المهيمنة وهم من يمارسون التملك والاستثمار(entrepreneurs)  ولكن غالبيتهم تأتي من الطبقات الوسيطة !لهذا فإلإنشقاق في صفوفهم هو أمر حتمي!

ماذا يقترح غرامشي في هذا المجال؟ الإقتراح الأولي هو أن كل الناس مثقفين بشكل ما! والاقتراح الثاني هو المثقف العضوي المعبر واللصيق بطبقته والذي يعيش من عمله خارج الإنتاج الثقافي و يشارك في الأحزاب السياسية والجمعيات التى تقوم بعمل مختلف عن التجمعيات المهنية(co-opération) والمثقفين الثوريين في الحزب العمالي الاشتراكي القديم !بحسب غرامشي الحزب الذي يقوم بدور الأمير الحديث!

“كاوتسكي” ومعه لينين كان  لديهما منظورا مختلفا و نوعيا.  ذلك أن العلم (الوعي في حالة لينين) يأتي للطبقة العاملة من خارجها! كما أن الخبرات الطبقية في النضال اليومي لاتؤدي إلا لوعي سنديكالي!ولكن تشكل هذه الفئة مرتهن بأزمة لدى البرچوازية ومثقفيها وطريقة إدارتها للمجتمع وانتقالهم للجانب الآخر رهين بعدم قدرة الطبقة على إدماجهم (“بيير بوردية”عن هايدجر وأزمة” الماندران” الألماني في العشرينات).  الصورة الأوضح للمثقف العضوي هو الراعي( القسيس)في أبرشية فلاحية والذي يعيش من فلاحة أرضه!لكن هل هو حقآ عضويآ؟هو جزء من”هيراركية” ومؤسسة تحميه وكثيرا ما تنفق عليه!ولا يمثل الطبقة التى يعمل بينها!هو وسيط طبقي بين السادة وموچيك الأرض! نتج عن التوسع الهائل للتعليم والجامعات ولحاجات الإدارة و مايسميه “ماكس فيبر” “البيرقراطية العقلانية” وهم مثقفون ليسوا بأى حال سوى في نفس الوضع الذى كان عليه رعاة الكنائس ومقيمو الشعائر والمؤدبين في عصر سابق! لكن لديهم ما ينظم  عملهم من قوانين ولوائح يسميها “فيبر” عقلانية!

قطاع واسع من مؤلفي الكتب والأساتذة الجامعيين ومحرري المدونات القانونية (الأيدلوچيين) هو أعلى قمة هذا الهرم الذي بفعل تأثيرهم ولحد ما استقلاليتهم النسبية المادية يعن لهم تقديم مجموعتهم كعابرة للمصالح الطبقية (علماء) وفي كل أزمة كبرى في الأزمنة الحديثة  كانت مساهمتهم الأشمل لصالح الطبقات  السائدة في علاقات الإنتاج(الرأسمالية) والتى ليست موحدة وحدة صلدة بل متناقضة بفعل چيولوچيا التاريخ الاجتماعي والثقافي لهذه الطبقات! ولا يمكننا تصور تيار جديد سوى عبر هذا الانشقاق الموضوعي والذي في ظله يتشكل الوعي الطبقي الجديد من بينهم أتى ماركس وأنجلز وكاوتسكي وبرنشتين ولينين وتروتسكي وأنطونيو غرامشي وتولياتي وموريس توريز!

هؤلاء  وغيرهم ليسوا عضويين بأى حال لكنهم قطاع منشق من العلم البرچوازي ! وعندما يتحدث ماركس عن آدم سميث والإقتصاد السياسي يعني العلم الإنجليزي وفي الفلسفة والمثالية الألمانية يعني الأيدلو چيا الألمانية الذي هو  ورفاقة من الهيجيللين اليساريين كانوا في حقيقة الأمر أعلى مراحلها! وليسوا نقيضها.

المثقف العضوي:

مقولة المثقف العضوي لا توضح  أى إشكالية في هذا المجال ولكنها تضيف الغموض على عملية التطور الاجتماعي. لماذا طرأت هذه المقولة  عل فكر غرامشي في السجن!الإفتراض الممكن هو أن التحول الكبير للإنتلچينسيا اليسارية في إيطاليا وألمانيا تجاه الفاشية التى تحولت لسلطة قامعة يؤيدها خيرة المثقفين( هايدجر-كروتشه) هو المحرك الفعلى للبحث عن مكون ثقافي-أيديلوچي من داخل الأبنية الطبقية وافتراض دور محوري له في تشكيل بديل.

هناك خطأ في المماثلة بين تشكل الثقافة و المثقفين البورچوازيين وتشكل وعي علمي بالاستغلال لدي الطبقات المستغلة وهي مماثلة خاطئة تمامآ فعلاقات الإنتاج البرچوازية قد وجدت في قلب المجتمع الإقطاعي قبل وصول الطبقة البورچوازية للحكم سياسيآ  والإيدلوچيا والثقافة البرچوازيين وممثليهما كانوا متواجدين كعاملين ذهنيين في المجتمع قبل الرأسمالي ذاته(محامين وموثقي عقود ومحاسبين وصحافيين وأدباء وفنانين ووعاظ منشقين)!هذا الخطأ وقع فيه قبل “غرامشي” فردريك أنجلس” عندما وضع مماثلة بين إنتشار المسيحية في الأمبراطورية الرومانية وإمكانية إنتشار الإشتراكية الديموقراطية بنفس الديناميكيات في وقت صدور القوانين القمعية لمنعهم من النشاط العلني في المانيا!

الداعية الأشهر لشعبوية اليسار (شانتال موفي) تتبنى أطروحة” غرامشي” عن الهيمنة! فقط هي  ترى أن تناقضها  هو في وضعها ضمن  مفهوم ماركسي عن صراع الطبقات وهى بذلك تكشف عن الطابع الشعبوي للمفهوم الغرامشي وعدم صلته الجوهرية بماركسية القرن التاسع عشر! وهي بغض النظر عن أطروحتها الشعبوية محقة في هذا الطرح.

طبعآ لانرى من ناحيتنا ماركسية جوهرية للمنافحة عنها أو باسمها وتوبيخ من لا يتبع صراطها المستقيم بوصفه “بالتحريفية” أو “المراجعة” كما هو موروث عن الأدب السياسي الروسي في هذا المجال وهو تحويل للممارسة الفكرية الماركسية لمحتوى شبه ديني(دوجمائية)! بينما نرى الضد وهو أن الماركسية تشكلت في الأصل كممارسة نقدية لمجالات مختلفة ولا يمكن تحديدها كعلم اجتماع  وضعي أو فلسفة استعراضية للتاريخ ولا كاقتصاد تصنيفي!هى نقد لكل ذلك ! وممارستها في بقاع مختلفة ذات تاريخ ثقافي متنوع وكذلك تكوينات طبقية متفاوتة انتج في النهاية كتابات ماركسية( يميزها اعتبار صراع الطبقات كمحرك للتاريخ) متنوعة جدا.وبهذا المعنى نتحدث عن  ممارسة ماركسية فكرية روسية (أكسيليرود-بليخانوف-لينين-بوخارين) وليس أبعد من ذلك.

لكن الخبرة التاريخية لصراع الطبقات قبل وبعد كتابة “غرامشي” لأطروحته (كراسات السجن) لم تعطِ دليل واحد  على إمكانية توصل الطبقات المُستغَلة لوضع الهيمنة الثقافية في ظل بقاء نمط الإنتاج الرأسمالي واستقراره.هناك مثل يطرأ حديثا على المناظرة  من الجهتين هو تجربة حزب العمال البرازيلي (P.T.) ونقابته (C.U.T.) !وواقع الحال يثبت عكس ما يرمي إليه مفسرو غرامشي! ذلك أن ما حدث أمام أعيننا فعليا هو تشكل تيار إصلاحي أغلبي في مجتمع تسيطر علية رأسمالية مأزومة و تتطور في اتجاه الاحتكار وهو ما شاهدنها عقب الحرب العالمية الثانية في بلاد متقدمة كألمانيا وبريطانيا وحتى إيطاليا وهى أمور حدثت كلها في مرحلة أزمات عامة استثنائية ووقتية في هذا البلد أو ذاك وهي مختلفة عن الأزمة التاريخية الملازمة لنمط الإنتاج ذاته. ما ينقص تصورغرامشي في  “الكراسات” هو التأثير الحاسم للأزمة العامة في تشكل الوعي الطبقي وهو ما يميز إستراتيچيات  “لينين “و”تروتسكي” للثورة الروسية على سبيل المثال وهو ماثبت نجاحه بروسيا في بدايات القرن العشرين وفشلت كل محاولات استنساخه.

نتوقع إستمرار وتوسع النقاشات حول الغرامشية لإنها في حقيقة الأمر ليست نقاشات حول كتابات لمناضل ومُفكر كتبها في ظروف صحية واعتقال مريعين!لكن النقاش سيستمر لأنه يدور حول إستراتيچيات الحركة العمالية في القرن الواحد والعشرين ولا نظن أن الإجابات على إشكالاتها ستأتي من خارج الأطر المعروفة والمُستجدة للحركة العمالية المنظمة.

  • نشر هذا المقال في “منارات”  الملحق الثقافي لجريدة الشعب – نوفمبر2022.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى