أخبار ثقافية
أخر الأخبار

بقلم جلال الرويسي: القاهرة كمان وكمان

القاهرة الان وهنا

القاهرة كمان وكمان،
(تقديرا للكثير، وإغاضة للقليل)
زيارتي إلى مصر بعد الستين هي تصحيح لوضع مختل قبل فوات الأوان. ليس معقولا أن أغادر الدنيا دون أن ألتقي أمّها، عسى أن تشفع لي في الآخرة.
نحن في تونس ابتُلِينا بحب مصر من قديم الزمان. ولم يصادفني تونسي واحد يتساءل كيف يُشفَى من حبّ مصر؟
نبتدي منين الحكاية؟
أنا حتعب، حتعب أنا…
وقفت على ضفّة النيل أكاد أنحني لأكرع جرعة تحلّي صوتي وتذهب عنه البحّة عملا بفكرة ورثتها عن أمّي التي كم أكّدت لي أنّ عذوبة أصوات المطربين المصريين تعود إلى كونهم شربوا من النيل. لكن ما فائدة ذلك في هذا العمر؟ أفكّر جدّيا في ملء قارورة من النيل أرشّها على قبرها. وأسقي منها العصافير التي تستريح عليه، فتغدو أصواتها أكثر عذوبة. سيدي يفضل ماء زمزم. ولكنّه لن يستهجن حركتي كعادته في التنازل عن قناعاته كلمّا تعلّق الأمر بالوالدة… أعرف أنّ نيل القاهرة ليس كنيل البوادي والصعيد، مع أنّ الماء واحد. الأوّل صناعي تجاري سياحي أما الثاني ففلاحي، وهذا يكفي ليجعل منه حكاية أخرى.
من أين نزل ذلك الخشوع العميق على علماني مثلي وأنا داخل قاعة الصلاة في مسجد سيدنا الحسين؟ هل هو جلال العمارة الفاطمية أم عذوبة صوت المؤذّن الذي يتردد في سماء الطاهرة؟
ذهبت إلى مصر أبحث عن وجه المصري الضاحك رغم كلّ شيء، فوجدت شكاوى الفلاّح الفصيح على كل لسان.
وشكاوى الفلاح الفصيح قصة من الأدب الفرعوني عُثِر على نصها كاملا غير منقوص مدوّنا في بردية. تروي القصة حكاية فلاح فقير تعرّض إلى ظلم واحد من الأعيان ضربه وافتكّ منه حميره ومحصوله. لجأ المسكين إلى الملك فرعون شاكيا. فأبهره بفصاحة لسانه. لكنّ فرعون تعمّد تجاهله حتى يستمرّ في كلامه المرصّع بالفلسفة والحِكَمِ عن العدل والظلم وأسباب دوام العمران. أمر فرعون بتدوين كل كلمة تصدر عن الفلاح عندما يعرض شكاويه، حتى يئس المسكين وهدّد بالانتحار. حينها أنصفه فرعون واقتص له من ظالمه. لا أذكر٠ إن كان خيالي صوّر لي أنّ الحكام الفراعنة اتخذوا من شكاوى الفلاح الفصيح دستورا لدولتهم، أم أنّ ذلك حصل فعلا…
يبالغ المصريون في حبّ بلادهم إلى حدّ يفقدهم الموضوعية ويجعلهم لا يرون عيوبها فلا يقبلون فيها خدشا بسيطا. الوطنية عندهم هويّة وليست وجهة نظر. تقول لسائق التاكسي أنّ عمارات القاهرة تهرّمت كثيرا، فيجيبك أنّ الأساسات جيدة ولا يُخشى على المباني من السقوط. والمصري إلى ذلك حذر بطبعه تلقي عليه السؤال فيجيبك بسؤال؟
ككلّ العواصم الكبرى في العالم، لا تخلو مصر، أعني القاهرة، من عيوب. لكنّها تظلّ مع ذلك ساحرة وفاتنة. بل ربّما كانت عيوبها تحديدا مصدر سحرها وفتنتها. ونحن نتمشى باتجاه ميدان التحرير لنسهر بعيدا عن رطوبة الغرفة ونعبّ من نسيم النيل، استوقفني عنوان لدى باعة كتب الرصيف: “لماذا يحبّ الرجال العاهرة؟” ولكنني اشتريت ترجمة مصرية ل”سيكولوجيا الجماهير”، يقينا مني أنّ قراءة هذا الكتاب في السّاهرة وفي ميدان التحرير بالذات حيث تجسدت سيكولوجيا الجماهير أيام الثورة المصرية، يعطي لكتاب غوستاف لوبون أبعادا أخرى.
إذا ركبت المواصلات، عليك أن تضع قلبك في كفّ حتى لا يقع منك وتمسك كفنك في الكفّ الأخرى. استخدام المنبهات لا علاقة له بلفت الانتباه أو التحذير. هو جوقة عصافير ضاجّة في غابة كثيفة. هو نوع من الرياضة الوطنية.
لمّا أخبرت حزّوم، أخي الذي لم تلده لي أمي، أنّني حجزت غرفة بفندق يفتح على ميدان طلعت حرب قريبا من مقهى ريش الذي تحلّيه صور مشاهير مصر ممّن كانوا يتردّدون عليه. أم كلثوم وأحمد رامي ويوسف وهبي ورشدي إباضة وأمل دنقل وسيد حجاب ونجيب محفوظ واسماعيل ياسين وعبد المنعم إبراهيم، تحفّظ على واقعية ذلك وقال إنّها أداة تسويقية لا غير. لم أرغب في الإصرار على أنّ صاحب المقهى يكون قد أهدي زبائنه حلما جميلا رغم كلّ شيء.
وهو يناولني بطاقته البنكية وورقة دوّن عليها كود البطاقة، قال لي حزوم: “لو كان بإيدي كنت سبقتك للقاهرة عشان أغسلّك شوارعها”. داريت اضطرابي أمام نبله وغيرتي من فصاحته بإغاضته أنّ غرفتي تفتح على عمارة يعقوبيان.
غسل القاهرة بدلا عنه سائق تاكسي ظلّ يحدّثني عن قلعة صلاح الدين وعن سور نقل مياه النيل إليها. وعن المقابر وسكانها وعن واقعة إبادة محمد علي لأربعمائة من أعيان المماليك بعد أن استدرجهم إلى فخ داخل القلعة ما جعل الدماء تسيل أنهارا حتى سمّي الحي أسفل القلعة بالدرب الأحمر.
قلعة صلاح الدين مركّب شاسع فيه مسجد محمّد علي البديع، وقصره الذي لم تبق منه سوى أطلال، ومتحف الشرطة والمتحف الحربي وسجن القلعة، وزنزانة التعذيب … وفي تلك الباحة المستطيلة، غنيّت لأماني وضياء “أنا زرت القلعة وشفت ياسين، حواليه العسكر والزنازين” الله يرحمكما يا شيخ إمام عيسى ويا فاجومي.
قال لي أبو محمد وهو يركن التاكسي أمام الفندق أنّ القاهرة سميت هكذا لأنها بنيت تحت نجمة تعرف بالقاهرة. ولذلك جرى عند الناس القول بوجود قاهرتين: قاهرة السماء وقاهرة الأرض.
لمّا انصرف أبو محمد عاتبتني زوجتي على عدم طلب رقمه حتى لا نتحرّك إلاّ معه. لكنّني كنت أخشى أن يحجب عني أبو محمّد بقية القاهريين.
سائقو التاكسي هنا إمّا حرامية أو مثقفون وطيبون. لا يوجد عندهم صنف ثالث.
أغلب آثار القاهرة محضونة بأحياء شعبية وفقيرة. قلعة صلاح الدين ومتحف الحضارة المصرية والأهرامات والفسطاط وسيدنا الحسين والسيدة زينب وغيرها… تشكّل الأحياء الشعبية حول الآثار طوقا يمنحها روحها المصرية. يمتهن الناس أنشطة لخدمة السياح ليست دائما جيدة وشفافة. فالآثار بالنسبة للمصريين الكادحين إرث تركه الأجداد منه يعيشون ويتكسّبون. إنّه في تفكيرهم ميراث للأهالي لا يمكن منازعتهم فيه، وليس تراثا وطنيا للدولة عليه وصاية حصرية، حتّى لو وضعت خطة شاملة لترميم الآثار وتثمينها ومراجعة طرق الاستفادة منها بشكل أكثر شفافية وعقلانية. فقد تشكّل على مرّ السنوات نسيج واسع ومعقّد من المصالح الاقتصادية والمعاملات الاجتماعية، وصار أمرا واقعا خارجا عن سيطرة الدولة رغم، أو ربما بسبب، المشاركة النشطة لأصناف مختلفة من أعوان الدولة وموظفيها في هذا النسيج واستفادتهم منه بطرق ليست دائما شفافة وقانونية. سيكون من الصعب المساس بهذا النسيج من المصالح والمعاملات في إطار خطة رسمية شاملة لمراجعة سياسة الآثار وأشكال تثمينها والاستثمار فيها والاستفادة منها بشكل أكثر استدامة، دون عبء اقتصادي واجتماعي باهض. هذا فضلا عن أنّ كلفة تهيئة هذه المعالم وتعهدها بالصيانة تفوق إمكانيات أيّ دولة مهما عظم شأنها. والكل يعلم كم تضرّرت مصر من نهب الدول الأجنبية وخبرت أنّ هذه الدول لا تعرض مساعداتها لوجه الله.
ضياء وأماني يطلقان ذلك النيزك المشع في سماء ميدان التحرير مزهوين بمهارتهما أمام الأطفال المنتشرين على النجيلة. ما أروع الأطفال في عفويتهم وما أسرع عندهم التعارف وعقد الصداقات.
يكفي أن يسأل طفل طفلا آخر يلعب قريبا منه: “ألا تريد أن نصير أصدقاء ونلعب معا؟” فيجيب الآخر: “مرحبا، لا مانع لدي” وفجأة تنشأ صداقة نابضة كفرخ حمام خرج لتوّه من قشرة البيضة. عشب ميدان التحرير، هذا الذي كان شاهدا على اعتصام الثورة المصرية، يشهد الآن على دموع تلك البنت القاهرية ذات التسع سنوات وهي تودّع أماني: “ح توحشني أوي يا أماني”. محمود ذو السبع سنوات يجري نحوي بقدميه الحافيتين رافعا جلابيته حتى لا تعيقه عن العدو ويقف أمامي يرجوني أن أترك ضياء يلعب معه أكثر… يا الله على جمال ذلك الصبي. بشرة قمحية وعينان واسعتان صافيتان على فم صغير تشع من وراءه أسنان كالثلج في بياضه. لمحمود كاريزما عجيبة جعلته يخترق قلبي. وحتى لا يحس بقسوتي سألته: “خلاص الوقت متأخر. هو أنت ما عندكش مدرسة بكرة الصبح؟”
“لا يا عمي أنا من الخرطوم في السودان. وموش حنرجع قبل ما تهدأ الحرب”
نعود مشيا إلى غرفة الفندق وهتاف الشباب يصلنا من خلف أسوار حديقة الجامعة الأمريكية حيث يقام حفل في الهواء الطلق.
في طريق عودتنا إلى الفندق، نتمشّى على مهل في شارع طلعت حرب، وقد خفّت فيه حركة السيارات، وصار الهواء نقيّا ومثقلا برطوبة النيل.
غالبا ما نصادف ذلك الحنطور الذي تجلس على كنبته الخلفية تلك المرأة التي تغادر الأربعين بكامل مشمشها. يقود الحنطور شيخ نحيف قمحي البشرة بشاربين وجلابية مصرية وعمامة بيضاء وهو يضحك كاشفا عن فم سقطت أغلب أسنانه ويبثّ موسيقى شعبية بصوت صاخب، والحصان يضرب الأرض بحوافره في انتظام كأنّه يرقص على وقع الموسيقى…. عجيب أمر هذه الستّ وهي تغنّي تارة وتقهقه تارة في انتشاء وسعادة ملوّحة بالتحية نحو المارّة المتحلّقين أمام باعة المثلّجات، فيتجاهلونها كما لو كانوا يستنكرون منها هذا السلوك. هل هي راقصة متوجّهة إلى العمل في أحد الملاهي؟ هل هي سكرانة متهوّرة؟ هل هي صاحبة محلّ تجاري تعود إلى بيتها كلّ يوم في نفس التوقيت وعبر نفس الطريق؟ هل هي مجرّد امرأة محبّة للحياة؟ تتزاحم هذه الأسئلة وغيرها في ذهني وأنا أتابعها مقاوما الرغبة في الهرولة وراء الحنطور، إلى أن تغيب هناك في عمق الشارع باتجاه دار القضاء العالي ناحية مترو جمال عبد الناصر.
أعدّ الأيام المتبقية لي في القاهرة وأتساءل كيف سأوزّعها على ذلك القدر الكبير من المتاحف والمواقع التي لم أزرها بعد. ويغمرني الحنين إلى القاهرة وأنا لا أزال فيها.

أترك تعليقا على الفايسبوك

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى