مقالات

فلم عرائس الخوف للنوري بوزيد. بقلم الناصر الصردي

 

“عرايس الخوف” للنوري بوزيد

النوري بوزيد يهوى إحياء الذكريات ولكن على طريقته، فبعد الاحتفاء بعشرينيّة “ريح السّد” (1986) عبر إخراج فيلم “اخر فيلم” (2006) ها هو يعيد الكرّة ويحتفل بعشرينيّة “بنت فاميليا” (1997) بإخراج فيلم افتتاح أيام قرطاج السينمائيّة 2019 “عرايس الخوف”.

يرتكز “بنت فاميليا” على ثلاثة نساء، احدهنّ جزائريّة هاربة من صدمات وجراح سنوات الجمر وتونسيتين احداهما مطلقة، مع تواجد رجل موسيقي يمتلك بعض صفات تمنح عادة للنساء.

كذلك تدور أحداث “عرايس الخوف” حول ثلاثة نساء مع إضافة شخصيّة رابعة الأم. غير أن الهاربات من صدمات وجراح واقع الجمر تضاعف عددهن وتجنّسن تونسيات. هاربتان من جحيم سوريا وصامتتان عن المسؤولين عن تسفيرهنّ من أبناء بلدهنّ، لتجدا نفسيهما في سجن نبذهنّ من طرف محيطهنّ وعائلتهنّ، فحتّى المحامية التي تريد الدفاع عنهما فهي ليست بقادرة على فهم ذلك الصمت الذي يحيط معانتهما لأنّها ليست بقادرة على ربط علاقة انسانيّة يمكنها التماهي مع الجروح العميقة التي تحملها أجساد المرأتين واحاسيسهما. المحامية، ورغم مشاكلها الشخصيّة، لا تنظر إلى الواقع سوى عبر فجوة القانون ولا ترى في معاناة المرأتين سوى وسيلة لفضح الإرهابيين قانونيّا. يوجد كذلك شاب مثلي يتعرض، مثله مثل الهاربتين، للإقصاء والتهميش.

النوري بوزيد وضع هذا التساؤلات محور فيلمه: كيف له أن يتّهم مباشرة المسؤولين عن كلّ هذا الأسى وهذه الجراح مع احترام حقّ الضحايا في الصمت؟ كيف للضحايا والمهمّشين أن يفضحون جلاديهم دون نطق لأن المجتمع ينبذهم دون انصات؟

اختار المخرج الارتكاز على حجم ضيّق للقطات طوال الفيلم وهذا يخصّ كلّ الشخصيات دون استثناء ليعبّر عن الانغلاق على اوجاع والتكتّم على الأسرار. كما استعمل كاميرا محمولة لا تكفّ على الحركة للتعبير عن اضطراب وتشنّج الشخصيات، فالمشاهد لا يمكنه رؤية الأجساد بأكملها بل أجزاء منها وخاصة الوجوه للتماهي مع الألم الذي استعمر أجساد وعقول واحاسيس تلك النساء.

وحتى يمكنه الإشارة إلى المسؤولين عن كل ذلك دون كلام، مكّن النوري بوزيد شخصياته من اليات تعبير أخرى مثل الكتابة وصنع العرائس وإيجاد رجل مثلي يحمل نفس جروح الإقصاء والعنف ليمكّن “زينة” من البوح ومن لمسات محبّة دون ان تكون علاقتها بالرجل، وهي الصفة التي أطلقتها على ادريس، مرادف للعنف والوجع. في مشهد ولادة جديدة وإعادة بناء الثقة مع رجل لا يحمل صفات الرجل التقليدي لأنّه يحمل كذلك اثار نبذه من عالم الذكوريّة، تتخلّص “زينة” من ملابسها الداكنة لتعود عالم المراهقة حيث كانت تتصدّى لوالدها دون خوف دفاعا على حرّية اختياراتها، بل أنّها تتخلّص من ذلك الأب عبر ضربه بحجر لتقتحم عالم أرحب في لقطة أخيرة تكشف لأول مرّة شسع الفضاء.

أمّا المرأة الأخرى “دجو”، فالتعبير بالكتابة وحده لم يكن كافيا لتفادي تعدّيها لمحنتها ولم تقدر أم زينة أن تشكّل الأذن القادرة على استيعاب الوجع الدفين، رغم أنّها امرأة، لتكون “ادريس دجو”.

نلاحظ هنا أن النوري بوزيد لم يسترجع شخصيات “بنت فاميليا” فقط، بل زار كذلك شخصيات من فيلمه “ريح السّد” مثل “فرفط” في لقطة سير “زينة” على السكّة الحديديّة والهاشمي في الصمت الكاتم “لزينة” و “دجو” وكذلك صورة الأب القامع والأم المتذبذبة       و“ قتل“ الأب التي صاحب العديد من أفلامه.

لكن ورغم انعتاق “زينة” في اخر الفيلم فإنّ المخرج يؤكّد على نسبيّة هذا الانعتاق، أولا عبر وضع زينة في هامش إطار اخر لقطة حتّى أنّها تكاد تكون خارجه. ثانيّا عبر كلّ تلك الحبال التي لا تخلو منها أي لقطة إذ نجدها في الديكورات بأنواعها حتى ستوديو “ادريس” وفي صنع العرائس وفوق السطوح لتكون الأداة التي يستعملها الأب لمحاولة التخلّص من أبنته. ذلك الأب، مثله مثل كلّ ذكور الفيلم، لا يجدّ سوى الإدانة من السينمائي بتجسيده، مثله مثل كلّ الذكور، عبر صورة بشعة وعاتمة وكما صرّح به شخصيّا ” الحلّ هو بيد النساء إذ لهنّ مهمّة تاريخيّة جوهريّة: إعادة تأهيل الرجال، والنساء التونسيات لهنّ القدرة على ذلك”.

                                                  الناصر الصردي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى