أخبار ثقافيةمقالاتملتقيات
أخر الأخبار

ممنوع من النشر

تاليف دنيا الماجري

لم أكن من المتململين من أشعة الشمس المباغتة التي تنبثق فجأة بتبرج صاخب ورياء بعد ليلة مطر طويلة في مواسم الربيع خاصة، ولا كنت أضيق بروائح الأعشاب البرية وحبيبات اللقاح المتطايرة على سواعد الهواء المتشابكة باضطراب حماسي معهود يناسب لين الطقس. ولنقل في المجمل أن تغيرات المناخ لا تربكني، حتى إذا اشتدت العواصف وتقيأت سخطا لا مثيل له أو نعقت الرعود كأنها معارك ديكة حامية.. وانسكبت أوبال الأمطار خيوطا سميكة فضة تقرع راحة البيوت وتقلق سكون أسقفها، ممزوجة بعواء الذئاب  المتفردة في أطروحاتها الفلسفية عن الكون والوجودية، فتقطع الكلاب استرسال تأملاتها الترنيمية بنباح استنكار..كل ذلك كفر وضلال ولا يجوز الخوض فيه خاصة لصغار السن وضئيني العقل أمثالي.. تلك الخطوب لا تخصني بأي حال، وحتى إن التقطت مقطعا تشويشيا من محادثة سرية عن شؤون الكون ونظامه وخلقه وحراسه أو رسله..  تتفوه بها حلوق الفتية اللاهثة أو إلقاء يستعرض فوائد الجهاد في سبيل دين الإسلام وصيد خفافيش الفسق والفجور وتقتيل المتبرجين والسياسيين الملاحدة  ورجال الأمن الطغاة، أو جلسة تأديب بالعصا والفلقة 

مع سيل شتائم لا حصر لها تتناقض مع مكارم الأخلاق التي طالما تحدثوا عنها، لن أكترث إلا بحنق شديد على من قطع نومي.

ما وظيفتي أنا غير تظليل الأجساد المتفاوتة الأحجام وصد قذائف الخارج وأصواته عنها؟..حتى الحشرات والحيوانات الزاحفة يمكنني مراوغتها. لكنها قادرة على خداعي وخاصة ذلك الذباب المزعج وأزيز الانتصار والغطرسة اللامحتمل. أما ما يحدث داخل هذا البناء وبين غرفه وعلى أرضيته وبين أسرّته وتحت أغطيته، لا ينتمي لمشمولات تفكيري

ولا ينطوي ضمن اهتماماتي، بل هي خطوط ممنوعة محرمة. ومن يدري قد تمتد يد غضب خشنة لتحطمني بصفعتي مطرقة بمجرد  نطقي بكلمة أو إبداء ملحوظة، وربما خضبت ببقع حمراء أو صفراء لزجة لا تزول عني حتى بتعاقب السنين التي لا أعرف بالضبط كم مر منها وأنا أكبر وأشيخ هنا.. كنت قنوعا أو هكذا دُرّبت على أن  اكون.

أقطن مكانا لا أعرف كنهه بالضبط أو موقعه من الخريطة الجغرافية للبلاد التونسية، يقولون أنه مسجد أو معسكر أو مقر تدريب أو مدرسة دينية ..لست أستشعر فرقا بين هذه المصطلحات فهي لا تغنيني ولا تزيدني عمرا. الطريق منقطعة تقريبا عن عيون الغرباء والزوار ونادرا ما يخدش نعاسي هدير محرك سيارة أو شاحنة.. البعض يسمون منطقتنا ريفا، ويُجمعون على لفظة “الرقاب”. لا أعرف ما إذا كانت هذه  تسمية أو نعتا.. المهم أن لها أثرا جللا في نفوس الرجال والفتيان هنا. ينطقونها  بخشوع وهم يعبثون بلحيهم فاغري الأفواه كأن جرعة مخدر سرت في شرايينهم. أعلم الكثير

عن المخدرات والحشيش والسجائر والكتب وتأثير كل منها على العقول والسرائر.. لكنني لن أخبر أحدا بما طالعت

فقد قطعت وعدا على نفسي، ليس بدافع الخوف لا تفهمني خطأ، ولكن ما يجري هنا يسلبك القدرة على معاودة سرده،

يبدو صعب الشرح فلا تميز منه قدسية من وحشية، وحبا من كراهية.. دعنا نكتفي بتشبيهه بالغبار السميك الخانق الذي تعيش داخله كأنك ستلهج أنفاسك وتحتضر في أية لحظة، ولكنك تستيقظ كل صباح دون أن يحصل لك شيء. فقط تنتبه لقطع اسمنت هائلة تسقط عنك..

لنعد لموضوعنا، أخبرتك بأنني لا أتذمر عادة ولا أشكو أرقا أو وهنا..لكن الليلة الفائتة كانت مرهقة وعطنة بشكل لا يطاق حتى أنني لم أقو على الحصول على طرفة عين واحدة. ولأول مرة تغدو ضجة الليل مرهبة وغير محتملة حتى أن الرغبة في البوح أو كتابة المذكرات أو الصراخ بسخط راودتني كثيرا. مازلت أستحضر الملحمة الصوتية وهولها كأنها سقطت سهوا من الجحيم بحيث لا تنتمي لهذه الأرض. لعلها خليط من النشيج  والتوسل والاستعطاف المتقطع أخذ يشج رأسي     ويبدو أنه كان صادرا عن طفل لم يبارح سن العاشرة هكذا تكهنت من رعشة صوته الضئيلة، ظننته يهذي بكابوس مزعج:  “شي شيخنا أرررجوك أرجوك..مؤ مؤلم”..

“ابن اللعينة هل هو شادي صاحب الصوت الأغن محب الأناشيد وأغاني فيروز التي يرددها خلسة.. بم يحلم الآن ؟”

لكن تكرر الاستعطاء مرفوقا بحشرجة غليظة يشتهر بها الشيخ عبد الله كبير معلمي أصول الدين وتلك اللمعة الحادة المنبثقة من مصباح الزيت العتيق ونظرة سوداء خاطفة  ينبض عمقها بكلام مطمور في جوف غابة غناء بلا قرار

أو في قعر بئر سيدنا يوسف التي يتحدثون عنها في قصصهم، جعلني أدرك الحقيقة..لقد كانت البئر شبيهة جدا بمقلة الصبي المشدوهة وتخيلت الغر يوسف أو النبي المكرم  كما يسمونه، يرتجف ذعرا في حدقة الطفل دون أن تنسكب دمعة ينزلق معها النبي المسكين ويفر بعيدا عن  أقفاص الحكايات والروايات فيسترد حنان أبيه وطفولته المغتصبة..

تمنيت كثيرا أن يبكي شادي لينهي كل هذا العذاب ولكنه لم يفعل.. وعيد الشيخ كان مرعبا وقاطعا:

“اخلع سروالك وإلا جززت رقبتك بتهمة الردة وعصيان أوامر مولاك”

وأعقبت ذلك لحظات صمت مدقعة حاولت أن ألجأ للنوم فيها هربا من سطوة هذه المحادثة ومغزاها الذي لم أستوعبه، وشعور القلق الكامن فيها لكنني لم أقدر. بقرت الهدوء موجة همهمات كرصاصات طائشة تعلو وتهبط وتنكمش ثم تنفرج لم أتبين فحواها، هل هي تنهيدات عميقة  أو أدخنة رمادية  منفوثة من فوهات براكين عفنه تطفح  ببقايا جثث تلقى فيها نيئة منذ دهور؟.. تسعفها بوادر عويل جريح يتماسك ثم يرتخي ويضيع بين طبقات الجو المثقل بالبلادة والأجسام المتحجرة الراقدة دون حراك.

لم يبد أن أحدا يشارف على اقتلاع صدره غثيانا أو الانفجار صداعا. الكل كان محشوا تحت أغطية صوفية سميكة لا تُبدِي حتى أجفانهم الناعسة. وحدي كنت سميرا لذلك المشهد الزيتي المغلف بالضباب.. تنتابني نوبات حمى ويتسلق العرق سطح جبيني المجعد، ثم تنفخ أنفاس مقطوعة فوق جذعي فأجف وأنكمش وأهُمّ أن أصيح.. بمن أصيح ؟

لم تكن فكرة سديدة، فقد بدت الهراوة الغليظة في يد شبح الشيخ الراكع على ركبتيه خلف ظهر الصبي الصغير المبعثر الثوب نذير هلاك أو رشم هبوط نائبة لا رجعة منها. لا أدري كم من الوقت مر والكتلة الضخمة تتحرك بوتيرة هزازة

من السرعة الجنونية خلف المجسم الصغير والهراوة تنزل على ركبتيه مع أقوال مثل:

“لا تتحرك.. افتح رجليك.. ارفع..اممم..مؤخرة جيدة وعقل مترهل..يالك من أبله !أطبق فمك..”

“سيدي كفى..منكر، أرجوك”..

أغمضت عيني بقوة حتى لا أتداعى من فرط الوجع. لماذا يجافيني الوسن في هذه الليلة بالذات؟ لا أظن أنها المرة الأولى التي تقتحم فيها مشاهد غريبة مسرح النوم الشامخ، كثيرا ما بلغتني زعقات واستغاثات و زلزلات تحطيم من الغرف المجاورة مع أسماء مختلفة ونبرات صوت تتراوح بين النعومة والجهورية كلها تحمل هويات أصحابها ولكنها تطمسهم سريعا فلن تكتشف معها سببا أو علة أو موعظة دينية.. ولكنها الليلة التي قدر لي فيها أن أرى ما رأيت. لم يحلل ذهني شيئا، أنا مجرد جدار شاحب مصفر بمبنى رث يسمونه مدرسة أو مخيما أو محلا مباركا للجهاد.. لا أعرف هَنات لهذه الألقاب أو مزايا.. من أنا لأبتكر شيئا أو أعي أو أحاضر أو أكتب؟ لست مميزا أو جسورا.. لم أعترض يوما على قدري أو حاولت اختيار موقف صائب أو نبذ سلوك مشين، ما همي أنا؟ فهذا مكاني منذ آلاف السنين.. ولكنني أفقت اليوم بطعم مرارة لا يحتمل أثقل وقوفي هذا وجعله موشكا على الانهيار. كانت في الجو أمارات اختلاف :

ثمة جلبة عالية ومكالمات هاتفية وهمسات غير مفهومة، لم أستدل على خبر قاطع.

 “ثورة .. انتفاضة .. إعلام .. محاسبة. .هروب .. قتلناه.. لم يمت “

لم أقو على الصمت. سأخط شيئا أنا أيضا، خبرا أو حكاية.. لابد أن أترك بصمة تدل على وجودي هنا لا أعرف من أين أبدأ ولكنني سأعترف بكل ما يدور بخلدي:

“أنا من أنا؟ مجرد كائن غير عاقل مستضعف.. أنا جدار بمدرسة الرقاب”.

تأليف دنيا(ريتا)الماجري

تعليق واحد

  1. رائع النص
    دائما تفاجئنا الغجرية الثائرة بجمال لغتها وجرأة مواضيعها ورهافة احساسها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى