سينما

لقشة مالدنيا. قراءة في فلم لنصر الدين السهيلي. بقلم الاستاذ جلال الرداوي

 

لقشة مالدنيا

لم اكن اعرف الصديق نصرالدين السهيلي معرفة شخصية قبل لقاءنا الاول بداية هذه السنة في مدينة نيويورك حيث كانت لنا نقاشات معمقة في مجالي السياسة والفن وكان الانطباع الاولي ايجابيا اذ ادركت حينها ان نصرالدين يريد فقط ان يكون مبدعا في تحديث لغته السينمائية وفي اقتراح سرديات مرئية جادة  وفي هذا الاطار امدني بنسخة من شريطه الوثائقي لقشة مالدنيا لابدي الراي فيه  ولقد جعلتني مشاهدة الشريط اتوقف عند خصوصية الكتابة السينمائية عند السهيلي او مقاربته للواقع المأساوي لشخصياته بالصورة كاداة فنية لتفكيك الواقع ثم اعادة صياغته وتشكيله فنيا ولعل اكثر ما ادهشني في وثائقي السهيلي لغته السينمائية الفريدة عند بناء سردياته المرئية واقتراحه مرجعية جمالية تبدو بسيطة للوهلة الاولى ولكنها عميقة عند متابعته لليومي البائس لشخصياته الثلاث رزوقة ولطفي فانتا وناقة شخصيات هامشية تعيش في اماكن مغلقة ومرعبة هي اقرب الى الجحيم من اي شيء اخر حيث تتراجع الحياة بشكل ممنهج فاسحة المجال امام الموت لإنتاج المزيد من الطقوس الجنائزية والفراغ بالمعنى الوجودي لهذا المفهوم من المتعارف عليه انه من الصعب مقاربة تشظي الفضاء ولكن الاصعب منه في الحقيقة هو صياغة مفهوم الفراغ باعتباره تحييدا ممنهجا و عدميا للزمن  ولعل السهيلي نجح من خلال شريطه ومن خلال وصف حيوات شخوصه البائسة والمتحركة في فضاءات الموت في جعلنا نقف مرة اخرى امام المرآة عارين من الحقيقة لا لنردد مع اراغون سؤاله اهكذا يعيش الناس… بل لإعادة بناء وتشكيل نظرتنا لأنفسنا وللآخر المهمش كم هو مؤلم فعلا ان تفقد البراءة والعذرية المفتعلتين عند الانتهاء من مشاهدة الفيلم فندرك ان رزوقة وفانتا و ناقة هم في النهاية نحن اي اناس عاجزين عن انتاج الحياة والقطع مع الموت بما هو اغلاق معتمد للأمكنة ونفي للزمن ولعل الموجع ايضا هو اصرار المخرج في معالجة واقع المهمشين المرير احالتنا ولو ضمنيا الى مرجعية الدولة التونسية الحديثة التي كتب مقدمتها بدمه مهمش اخر اسمه البوعزيزي وعجزت نخبها في اتمام فصولها واعتقد ان المخرج وفق في تصوير الفراغ ووصف الموت دون السطو على ما تمتلكه شخصياته من لغة متشظية ومشفرة وبقايا احلام وبعض من صمت والكثير من اللغو و العنف والعدم ومما يحسب للمخرج تركه الحرية المطلقة لشخصياته لتتعرى امام كميراته دون توجيه علني منه ليحيلنا الى الوظيفة الاولى للسينما وهي اثارة الدهشة واعادة بناء النظرة للإنسان والاشياء وهو في ذلك قريب من مدرسة الواقعية الجديدة الايطالية وشبيه بإحدى رموزها السينمائي ايتور سكولا الذي عالج نفس الموضوع في شريطه الروائي AFFREUX SALES ET MECHANTS

وجب الاشارة اذا الى ان الادوات الفنية التي اعتمدها السهيلي في اخراجه لشريطه الوثائقي والمتمثلة في كثرة استعمال LES PLANS SEQUENCES وتوظيف تقنية CHAMP CONTRE CHAMP ومتابعة لصيقة لحركة الشخصيات بكاميرا محمولة على الكتف والاستغلال الرائع للألوان في وصف العتمة والضوء للفضاءات الموصوفة فالانتقال من الوان العتمة الى الوان الضوء كان سلسا جعلتنا ندرك البنى العميقة لحركة الواقع وحركة الشخوص لقد كانت الالوان الداكنة تعبيرا عن فضاءات الموت المغلقة بينما وظفت الوان الضوء في الاشارة الى ما يمثل شيئا ايجابيا كالحلم المنكسر لفانتا اثاره مشهد الاحتفال بزيجة في ساحة عامة لأحدى المدن اوعند اقتراحه  لمشهدية البحر جمعت فانتا برزوقة .

يمكن القول مما سبق وبالرغم عن ان موضوع الفيلم ليس جديدا باعتبار تطرق بعض السينمائيين كبازوليني وسكولا او بعض الادباء كمحمد شكري في كتابه الخبز الحافي الا ان ما يحسب للسهيلي هو تجديده لأدواته ولغته السينمائية في انتاجه لجمالية سهلة ممتنعة ستمثل اضافة نوعية للسينما التونسية والعربية عموما مما سيجعل مؤرخي و ناقدي السينما التونسية يتحدثون عن مرحلة ما قبل شريط لقشة مالدنيا وما بعدها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى